انتهت ولاية إميل لحود إلى الفراغ الذي فرضه حزب الله وميشال عون، الحليفين الجُدد حينها. سبقه اعتصام قوى 8 آذار (مع أنصار عون) في وسط بيروت لإسقاط حكومة السنيوره. صمد هذا الأخير في السرايا الكبير. جمع وزراءه فيها خشية سقوط حكومته بالاغتيالات. بعدها اجتاح الحزب بيروت عسكريًا في 7 ايار الشهير. تحرّكت الدول لتلافي الأسواء. فدعت قطر القوى اللبنانيّة المتصارعة إلى الدوحة للحوار. فاتّفقت، من ضمن ما اتّفقت عليه، على “الثلث المعطّل” في الحكومة وعلى انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيسًا للجمهوريّة.
رئيس “ابن دولة”
ميشال سليمان ابن دولة قبل أن يولد. والده نهاد في قوى الأمن. وأعمامه الأربعة أيضًا. وهو ابن عمشيت، بلدة القادة والعمداء والأميرالات منذ الانتداب الفرنسي.
في التسعينيات عيّن مديرًا لمخابرات جبل لبنان لتجنب استفزاز المسيحيين المعارضين لسوريا. ثم أصبح قائد لواء وخدم في البقاع. هناك، بحكم الأمر الواقع، تعرّف إلى غازي كنعان ضباط سوريين كثيرين، ومن ثم إلى بشّار الأسد. وتعرّف عليه حزب الله.
بعد خروج ميشال سليمان من بعبدا بدأ الفراغ الأطول في موقع رئاسة الجمهوريّة لفرض ميشال عون مرشّحًا أوحدًا للرئاسة
الرئيس إميل لحود أراد صديقه العميد أسعد غانم ومن ثم العميد سليم ليّون قائدًا للجيش. ولكن السوريين اختاروا ميشال سليمان. ربّما لخلق توازن مع لحود الذي كان قائدًا سابقًا للجيش! لذلك لم تكن العلاقة جيّدة بين لحود وسليمان الذي تصرّف كـ”إبن دولة”. تعاون مع رئيس الجمهوريّة حسب الأصول. في المقابل كان لحود يتخطّاه بأوامر مباشرة إلى مخابرات الجيش، وأحيانًا إلى وحدات في الجيش. أبرزها في 7 آب 2001.
اغتيال رفيق الحريري وما نتج عنه شكّلا منعطفًا كبيرًا في العلاقة بين ميشال سليمان من جهة والسوريين وأزلامهم في لبنان وحزب الله من جهة أخرى. تصرّف سليمان بـ”حكمة سليمان”. أدرك أن تبدّلًا جذريًا قد حصل. ففتح طريق المتظاهرين إلى ساحة الشهداء في 28 شباط 2005. ما أدّى إلى سقوط حكومة عمر كرامي تحت ضغط الشارع. وثق به “قصر قريطم”. فطرح سعد الحريري اسمه لخلافة إميل لحود. في البداية تحفظ سمير جعجع وأمين الجميّل، بعدماعانيا الأمرّين من تجربة ميشال عون، ثم وافقا أخيرًا. وليد جنبلاط، بالمبدأ ضد العسكر في بعبدا. لكنه لم يعاكس الرياح كالعادة وأيّد طرح اسم سليمان. فكان اسم هذا الأخير جاهزًا للتوافق عليه بعد أشهر في الدوحة. تعامل حزب الله بواقعية مع الأمر. قبل بسليمان، خاصّة وأنّه عرفه في البقاع كقائد لواء وفي الجنوب كقائد للجيش بعد حرب تموز. رضخ ميشال عون للأمر. وقبل على مضض.
بدأ عهد ميشال سليمان بتفاهم مع حزب الله وانتهى على خلاف قويّ معه. الأسباب عدّة، منها إسقاط حكومة سعد الحريري الأولى باستقالة وزراء 8 آذار و”الوزير الملك”، وفرض نجيب ميقاتي بعد انتشار القمصان السود في بيروت، وتأخير تشكيل حكومة تمام سلام أكثر من 10 أشهر. يبقى سببان استراتيجيان أدّيا إلى “كسر الجرّة” بين الطرفين:
1- تراجع حزب الله عن موافقته على “إعلان بعبدا” القائل بتحييد لبنان عن الصراع في سوريا، وإرساله ألوفًا من مقاتليه إلى سوريا للقتال دفاعًا عن نظام بشّار الأسد.
2- تحسّن العلاقة بين ميشال سليمان والمملكة العربيّة السعوديّة. ففي 11 تشرين الثاني 2013 التقى الرئيس سليمان الملك عبدالله في الرياض. وبعد شهر أعلنت السعودية عن تقديم مبلغ 3 مليار دولار لزيادة قدرات الجيش العسكريّة في أداء مهامّه، وأبرزها مراقبة الحدود مع سوريا.
قبل نهاية ولايته بشهر تقريبًا، استبدل ميشال سليمان بقلم رصاص “معادلة الشعب والأرض والمؤسّسات”، التي كُتبت في خطابه المطبوع، بـ”المعادلة الخشبيّة”. كانت هذه الجملة رصاصة اطلقها من جامعة الكسليك وأصابت الضاحية. فقضت على حظوظ التمديد له الذي تم التداول به في الداخل ومع الخارج.
بعد خروج ميشال سليمان من بعبدا بدأ الفراغ الأطول في موقع رئاسة الجمهوريّة لفرض ميشال عون مرشّحًا أوحدًا للرئاسة.
بدأ عهد ميشال سليمان بتفاهم مع حزب الله وانتهى على خلاف قويّ معه
عهد الدمار الشامل
منذ العام 1988 لم يعد ميشال عون يرى سواه على كرسيّ الرئاسة. خاض الحروب، بدّل الخيارات، فرض الفراغات… كل ذلك من أجل الرئاسة. وعندما حصل عليها دمّر البلاد.
في العام 1984 طرحت القوات اللبنانيّة اسم ميشال عون لقيادة الجيش. فهو كان قريبًا من بشير. قبِل به أمين. وبدأت مسيرة ميشال عون التدميريّة نحو الرئاسة. لم يوفّق في ثمانينيات القرن الماضي. لجأ إلى السفارة الفرنسيّة هربًا من القصف السوري. ومنها إلى فرنسا.
بدأ الحديث في أوساط إميل لحود عن عودة ميشال عون إلى لبنان قبل بضعة أشهر من اغتيال رفيق الحريري. كان الهدف خلق توازن في الانتخابات النيابيّة المقبلة (2005). فالحريري كان قد حقّق “تسونامي” في انتخابات 2000. خاف لحود من أن يحقّق “تسونامي” أكبر فيعود أقوى إلى رئاسة الحكومة التي كان قد استقال منها.
تولّى كريم بقرادوني الاتّصال بميشال عون. اتّصل بالسوريين فأجابوه: “شوفو حزب الله”. التقى بقرادوني بحسن نصرالله، فطرح الأخير مجموعة أسئلة عن الجنرال. أجابه كريم: “اطرحها عليه مباشرة بعد عودته”. وافق. في المقابل، كان لدى عون مجموعة مطالب تتعلّق بإنهاء الملفات القضائية ضدّه. ذُلّلت كلّها. في موازاة ذلك التقى الجنرال موفدين من “14 آذار”. ولكنّه فضّل العودة بالتنسيق مع المعسكر السوري في لبنان. نسيَ الجنرال التحرير، وسلاح الحزب الميليشياوي، وقانون محاسبة سوريا، واتّصالاته من أجل القرار 1559…
نقل البندقية من كَتف إلى آخر. وتابع سعيه للرئاسة. لم يحصل عليها إلاّ في العام 2016 بعد فراغ دام سنتين وخمسة أشهر. رئاسة ميشال عون، كما مسيرته السياسيّة قبلها: وعود فارغة ومجموعة تناقضات وكوارث:
1- ادّعى الإصلاح والتغيير، فكلّفت “وزارة الصهر” 45 مليار دولار زيادة في الدين العام.
2- ادّعى محاربة الفساد، قامت ثورة شعبيّة ضد الفساد. أنكرها وقمعها.
3- ادّعى إعادة بناء الدولة، فسلّم الدولة أكثر فأكثر لدويلة حزب الله.
4- ادّعى استرداد حقوق المسيحيين فدفعتهم سياساته إلى الهجرة واليأس من لبنان.
5- ادّعى الدفاع عن المواقع المسيحيّة في الدولة فحمّل حاكم المصرف المركزيّ المارونيّ كل مسؤولية الانهيار… واللائحة تطول.
إقرأ أيضاً: العسكر في بعبدا: اللواء والأميرال
الكوارث أيضًا تُعد ولا تُحصى. انفجار مرفأ بيروت والانهيار الكامل غطّيا على الباقي. إنه عهد الدمار الشامل.
تُختصر مسيرة ميشال عون السياسيّة بكلمة: الكذب. لم يصدق سوى في كلمة واحدة: “رايحين ع جهنم”.