عادت إلى الواجهة الغارات التركية على أراضي العراق وسورية أو على المناطق الكردية في البلدين بالذات. وذلك بعد التفجير الذي حصل في إسطنبول، واتّهمت السلطات التركية حزب العمال الكردستاني بتدبيره. وفي العادة تعلن السلطات التركية القبض على عناصر من داعش تسلّلوا إلى تركيا ويخطّطون للقيام بعمليات.
هذه هي المرّة الأولى منذ زمنٍ التي تعلن فيها السلطات التركية مسؤولية حزب العمال عن غارة أو تفجير بداخل أراضيها. وخلال السنوات الماضية دأبت تلك السلطات على القيام بغارات على المناطق الكردية بالعراق وسورية بحجّة وجود قواعد لحزب العمال الكردستاني التركي فيها، وهو في نظر تركيا تنظيم إرهابي، ويخطّط دائماً لعمليات بالداخل التركي منذ عام 1984. وبحسب الأتراك فإنّ الحزب تمركز منذ ذلك الحين على الحدود التركية – الإيرانية – العراقية (إنّما بداخل العراق: جبال قنديل).
تمدّد حزب العمّال الكردستانيّ
عندما قامت الثورة السورية عام 2011، ثمّ صار الثوار يحملون السلاح منذ عام 2013، صارت المناطق الكردية مسلّحة، وصار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يقول إنّ عصب “الجيش” الكردي بتلك المناطق الممتدّة على الحدود التركية هو حزب العمّال الكردستاني (التركي). وقد كسبت المناطق الكردية المسلّحة سمعةً دولية عندما قاتلت تنظيم داعش، الذي سيطر على معظمها (2014-2016)، بمساعدة العسكريين الأميركيين الذين أقاموا فيها قواعد باقية، وهم يقدّمون إلى جانب الخدمات الكثير من السلاح الخفيف والمتوسّط، والمعلومات الاستخبارية، ويساعدون في ضبط الأمور من حول مخيّمات بقايا داعش، وأهمّها مخيّم الهول، وفيه ستّون ألفاً معظمهم من النساء والأطفال.
المفاجئ أخيراً خطابات الخامنئي المتكاثرة بداعي الحملة على المتظاهرين، والتي وردت فيها تعليلات غريبة للأوضاع في العراق وسورية ولبنان والصومال
إردوغان يتّهم الأميركيّين بمساعدة “الإرهابيّين”
إردوغان لم يقبل بكلّ ذلك. وقال وما يزال يقول إنّ الأميركيين يساعدون الإرهابيين الذين يهدّدون أمن تركيا. ولذلك دعا منذ عام 2015 إلى إنشاء منطقة آمنة على الحدود مع سورية عمقها ثلاثون كيلومتراً. وقد قام بالفعل بعمليّتين كبيرتين ضدّ تلك المناطق فاحتلّ الجيش التركي بمساعدة الجيش الوطني السوري (جيش المعارضة) مساحة 1,600 كيلومتر، وكان يريد الاستيلاء على 800 كيلومتر أيضاً، إنّما اجتمع عليه الاعتراضان الأميركي والروسي. وقد اضطرّ إلى السكوت والصبر وترك التحالف الدولي ضدّ داعش، ومضى للاتفاق مع روسيا وإيران في آليّة “أستانا” على “خفض التصعيد”، فصارت في مناطق شمال وشمال شرق سورية أربعة جيوش: النظام والإيرانيون والروس والأتراك، بالإضافة إلى ميليشيا تحرير الشام المتشدّدة (القاعدة سابقاً) في إدلب، وميليشيات الجيش الوطني السوري المتعدّدة بإشراف الأتراك، وميليشيات الأكراد تحت مظلّة الأميركيين!
عاد إردوغان لرفع الصوت منذ عدّة أشهر للمطالبة من جديد بالمنطقة الآمنة على الحدود التركية- السورية. وهو يقول إنّ التنظيمات الكردية المسلّحة ذات الأصل التركي (= حزب العمال) لا يقتصر وجودهم بالعراق على جبال قنديل الآن، بل هم موجودون في منطقة سنجار على حدود المنطقة الكردية من ناحية المحافظات السنّية، وقد تمركزوا هناك عام 2016 وما بعد خلال معارك التحالف الدولي ضدّ تنظيم داعش.
موسكو وواشنطن ضدّ العمليّة البرّيّة التركيّة
منطق إردوغان المعلَن أنّ حزب العمال الكردستاني خطر على الأمن التركي، سواء في العراق أو في سورية. ولذلك يطالب الحكومة العراقية بطرده من أراضيها. وبعد طول عداءٍ مع النظام السوري يحاول منذ مطلع عام 2022 التواصل مع نظام الأسد للغرض نفسه، أي ضبط المسلّحين الأكراد. وقد أثار ذلك سخط المعارضة السورية المعتمِد عليها. لكن لأنّ المحادثات لم تتقدّم عادت مسألة المنطقة الآمنة التي يريد من ورائها إبعاد الأكراد عن حدوده، وإسكان مليون سوري مهجَّر في تركيا بتلك المناطق الحدودية وما وراءها، كما فعل في المناطق التي سيطر عليها. إنّما هذه المرّة أيضاً تصاعد الاعتراضان الروسي والأميركي بحجّة أنّ العمليّة الأرضية التركية إن حصلت تهدّد الاستقرار الهشّ، وتسمح لتنظيم داعش بالعودة إلى الحياة! فهل يجرؤ إردوغان على القيام بالعملية الأرضية، أم يستمرّ في الغارات الجوّية المدمِّرة إلى ما لا نهاية؟!
رواية الإيرانيّين وعمليّاتهم في سورية
عند الإيرانيين رواية أخرى في الأسابيع الأخيرة. فهم يكثّفون غاراتهم بالمدفعيّة والمسيَّرات على المنطقة الكردية من ناحيتهم أيضاً بحجّة أنّ الأحزاب الكردية الإيرانية المعارِضة (يسمّيها الإيرانيون: انفصالية وإرهابية) أقامت قواعد مسلّحة على الحدود مع إيران بداخل المناطق الكردية- العراقية، وهم يساعدون المتظاهرين في مدن كردستان الإيرانية، ويتسلّلون بسلاحهم إلى داخل إيران. ويبدو أنّ الغارات الإيرانية كانت أشدّ إيذاءً من مثيلتها التركية، لأنّ شكاوى الأكراد بإقليم كردستان العراقي صارت أعلى، وكذلك صوت الحكومة الاتحادية العراقية. وهم تارةً يترجّون الإيرانيين أن يكفّوا شرَّهم، وطوراً يهدّدون برفع شكوى إلى مجلس الأمن ضدّهم وضدّ الأتراك!
إنّما المفاجئ أخيراً خطابات الخامنئي المتكاثرة بداعي الحملة على المتظاهرين، والتي وردت فيها تعليلات غريبة للأوضاع في العراق وسورية ولبنان والصومال، نعم الصومال(!). المتظاهرون بحسب الخامنئي مدفوعون من أميركا وإسرائيل، وبخاصةٍ في مناطق سيستان وبلوشستان (السنّية)، وكردستان (الإيرانية، والسنّية أيضاً بمعظمها). لا يمكن للإيرانيّات والإيرانيين أن يحتجّوا على النظام الإسلامي إلاّ إذا داخَلَهُم المتسلّلون والجواسيس. أمّا البلوش والأكراد فيمكن لأنّهم انفصاليون. وكما سبق القول فإنّ الخامنئي يستطرد ليعلِّل التدخّل الإيراني في الدول العربية خلال عقدين وأكثر. ولقد كانت استراتيجية الجنرال سليماني التدخّليّة في العراق وسورية ولبنان والصومال لنشر وهج الثورة الإسلامية، وللدفاع عن أمن النظام الإسلامي. فالاضطراب في تلك الدول والبلدان كان المقصود به الجمهورية الإسلامية، ولذلك تصدّى الثوريون الإيرانيون هناك وما يزالون من أجل الأمن الإيراني. وسيظلّون على هذه السياسة في لبنان وفلسطين، لكي لا تستطيع الإمبريالية النيل من الثورة الإسلامية!
الفارق بين استراتيجيّتَيْ إيران وتركيا
بالنسبة إلى إردوغان يكون على البلدين وعلى أميركا وروسيا والأمم المتحدة منع حزب العمّال الكردستاني التركي من التعرّض لأمن تركيا القومي، أو يقوم الجيش التركي بذلك كما فعل حتى الآن. أمّا الإيراني فهو أكثر صراحةً، فالتدخّلية الإيرانية في سائر البلدان (ولم يذكر اليمن من بينها!) هي استراتيجيةٌ دائمةٌ لحماية الأمن الإيراني، بمعنى: نحن نقاتلهم على أراضي الدول الهشّة الأخرى حتى لا نضطرّ إلى مواجهتهم بداخل إيران!
إردوغان يقاتل في الخارج ليربح الداخل
يقول المراقبون الغربيون إنّ إردوغان يواجه انتخابات متعدّدة في العامين المقبلين، ومتاعب نظامه الاقتصادية والاستراتيجية كبيرة. ولذلك هو يتحرّك في كلّ مكان ليُلهي عن المشكلات الداخلية من جهة، وليقول للناخبين الأتراك إنّه الأقدر على تأمين تركيا وتخليصها من حزب العمّال، ومن اللاجئين السوريين، وجعْلها قوّةً عسكريةً كبرى، فهو استطاع عام 2022 بيع سلاحٍ بأربعة مليارات دولار! وهو يقول إنّ الأميركيين والروس يتآمرون عليه، بينما تنتشر التقارير عن أنّ كلتا القوّتين الكبيرتين راضيتان سرّاً عن تحرّكاته من أجل إضعاف الوجود الإيراني في سورية.
إقرأ أيضاً: ما هي خيارات أنقرة بعد تفجير “تقسيم”؟
ادّعاءات الخامنئي
أمّا الخامنئي الذي يتزعّم نظاماً مختلفاً، والذي خاض حروباً بالواسطة في كلّ مكانٍ على مدى عقود، فهو لا يعترف للناس في إيران بحقّ المطالبة بالحرّية وبالخروج من نظام التجويع والفساد باسم الدين، ويذهب إلى أنّ حروبه التي استنزفت إيران كانت مبرّرة بالتصدّي للتهديد الإمبريالي لإيران فيما بين الصومال وفنزويلا!
عندنا مشكلاتٌ كثيرةٌ مع الجيران القريبين والبعيدين، وأهمُّ العِبَر أنّه إذا سقطت البقرة كثُر سلّاخوها. ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@