نادراً ما يخرج كلامٌ “حادٌّ” على لسان الدبلوماسية المصرية حين تتحدّث عن لبنان. في معظم الأحيان يكون الكلام السياسي المصريّ محدداً، ويتناول ضرورة التوافق والإسراع في “إعادة تكوين الدولة”، ضمن سقف “الأمن القومي العربي”، كما تراه مصر، من أجل حماية “الدولة الوطنية”، وصيانة الدول الوطنية في الوطن العربي.
سفير مصر ياسر علوي ذهب إلى بكركي في 15 تشرين الثاني الجاري وأعلن من هناك أنّ الحوار في الملفّ الرئاسي “لم يبدأ بعد” في لبنان حتّى الآن. وتوجّه إلى الأطراف السياسية في لبنان كما لو أنّه يؤنّبها: “الوضع لا يحتمل المزيد من إضاعة الوقت بالتلميحات والإيماءات”، ودعا إلى “كشف الأوراق وبدء حوار جدّيّ لإنتاج الرئيس الذي يليق بهذا البلد”.
من يتابع الجهود الدبلوماسية المصرية سينتبه إلى أنّ هذه الدعوة “غير عاديّة”، فسفير مصر يدعو المعنيّين إلى التوقّف عن تضييع الوقت باعتبار أنّ الحوار الحقيقي في هويّة الرئيس المقبل للبنان لن يبدأ قبل كشف الأوراق.
يعرف الجميع أن لا برامج انتخابية في لبنان ولا ضمانات ولا توافقات خارج الأسماء. في لبنان هناك أسماء، أي شخصيّات لها تاريخ وسيرة وعلاقات ونوايا وميول وارتباطات وأمزجة… والتفاوض لا يكون إلا على الأسماء. كلّ كلام عن “مزايا” و”برنامج” و”بروفايل” هو قنابل دخّانية لتبرير تأجيل بدء “الحكي الجدّيّ”.
البلد اليوم “واقع” في قعر الانهيار. لا غنائم، بل أثمان على الرئيس المقبل أن يشرف على “تقسيمها” بين من سيدفعونها
تقاسم “الأثمان” لا “الغنائم”
لم يعد في لبنان غنائم ليقتسمها الساسة. في العادة يكون “التوافق” هو الاسم المعلن لـ”اقتسام الغنائم”. حدث هذا في تسوية 2016 الرئاسية، التي تبعتها سلسلة الرتب والرواتب للمحظيّين وأبناء “الزبائنية السياسية”، والتوظيفات العشوائية، ونفخ الإدارة العامّة بالمحاسيب والأزلام، والمناقصات و”تسريع” الهدر… وكان الجميع في مركبها.
البلد اليوم “واقع” في قعر الانهيار. لا غنائم، بل أثمان على الرئيس المقبل أن يشرف على “تقسيمها” بين من سيدفعونها. وهذه الأثمان تبدأ في السياسة، ولا تنتهي إلا في السياسة.
لذلك لن يكون التوافق هذه المرّة “تبويس لحى” كما كان في الاتفاقات التي مهّدت لتسوية 2016. لا كؤوس في مقرّات حزبية ستُقرَع، ولا احتفالات بتفاهمات مستجدّة من هنا أو تحالفات اللحظة الأخيرة من هناك. ولن يكون تنصيب الرئيس مناسبة ليحتفل هذا الحزب أو تلك الطائفة.
نصيحة مصر
سيدخل الرئيس الجديد قصر بعبدا على أنغام موسيقى حزينة، ونغمات الاستعداد لبدء العمل من أجل إنقاذ لبنان. ولأنّ هذا هو السياق الحقيقي لخريطة الوصول إلى قصر بعبدا، فإنّ مهمّة الرئيس الجديد تنحصر في واجبين لا ثالث لهما:
1- المصالحة الوطنية: أن يدير حواراً هدفه وخلاصته مصالحة داخلية تعيد ردم الأودية العميقة بين الأطراف الداخلية، وتنتج توافقاً وطنياً على الملفّات الأساسية.
2- المصالحة مع العرب: أن يعيد ترميم علاقات لبنان العربية مع محيطه الطبيعي، وأن يعيد انتساب لبنان وانتظامه ضمن منظومة المصالح العربية.
هذان الشرطان كان اختصرهما السفير علوي من بكركي، مركز القيادة المرجعية المارونيّة العليا في العالم وفي لبنان، حدّد للرئيس الجديد مهمّات تقضي بأن “يكون جسراً يعبر بهذا البلد من أزمته، ويعيد تجسير الهوّة بين لبنان وحاضنته الطبيعية العربية”.
قبل أيّام من انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، سيكون المشهد قد انجلى في المنطقة والإقليم ودوليّاً، وسيكون اللاعبون أمام خطر الخسارة الكاملة إذا لم يكشفوا أوراقهم
6 أسابيع و6 أشهر
بدأت تنتشر في الصالونات السياسية جملة “6 أسابيع و6 أشهر”، للحديث عن الفترة الباقية قبل ولادة التسوية الرئاسية. 6 أسابيع هي الفترة التي تفصلنا عن رأس السنة الميلادية. وخلال هذه الأسابيع ستستكمل الأطراف المعنيّة في لبنان مسيرة “نفش الريش الطاووسيّ”، واستعراض العضلات النيابيّة، و”رفع السقف” الشعبي، و”الغمّيضة” السياسية، أو “الاستغمّاية” بالمصري.
خلال هذه الأسابيع سيكمل الساسة لعبتهم المفضّلة، وهي “حرق الأسماء” في الإعلام لاستبعادها. في حين أنّ الترشيحات الجدّيّة، مثل الأوراق الكبرى المفاجئة في ألعاب ورق الشدّة، ستظلّ مخبّأة بعناية.
في الأشهر الستّة اللاحقة، بين 9 كانون الثاني و9 تمّوز، أي بين موعد انتهاء عطلة الأعياد، وقبل أيّام من انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان، سيكون المشهد قد انجلى في المنطقة والإقليم ودوليّاً، وسيكون اللاعبون أمام خطر الخسارة الكاملة إذا لم يكشفوا أوراقهم.
لا رئيس غلبة
يعرف الجميع أنّ العرض، الذي قدّمه حزب الله عبر الأقلام القريبة منه، عن تسوية “سليمان فرنجية – نواف سلام” لم يجد له آذاناً صاغية في الدول العربية. هذه المرّة لن يقع العرب في “الفخّ العونيّ” مجدّداً. فالتسوية ستكون على “اسم الرئيس” لا على “حزمة” أو على “اسمين”. فرئيس الحكومة يتغيّر بتغيّر الظروف الداخلية والخارجية، فيما رئيس الجمهورية يبقى 6 سنوات متحرّراً من أيّ التزام مسبق، كما فعل ميشال عون مع سمير جعجع وسعد الحريري.
إقرأ أيضاً: مصر حاضرة دائماً في لبنان
هذه المرّة لن يكون رئيس الجمهورية لمحور دون آخر. لا لمحور إيران ولا للمحور العربي. والمحوران يمسك كلّ منهما بـ44 صوتاً: 44 لميشال معوّض، و44 ورقة بيضاء لسليمان فرنجية، ويبقى 40 صوتاً بين جبران باسيل والتغييريّين والمستقلّين وتكتّلات النواب السُنّة.
هذا التعادل السياسي، وتقسيم مجلس النواب 3 أثلاث، يجعل من الصعب أن يكون الرئيس لمحور دون آخر. ولذا لن يكون هناك “رئيس غلبة”، وإلا ستتعثّر المصالحتان، الداخلية والخارجية… وسيكون خراباً.