وصف غسان تويني ذات مرّة الرئيس شارل حلو بأنّه “راهب في غير مكانه”. هو رابع رؤساء لبنان بعد الاستقلال والنسخة الثانية من العهد الشهابي. عاش 88 عاماً. عام 1913 أبصر النور في بيروت في طريق الشام، ولمّا بلغ الخامسة من عمره تُوفّي والده الصيدلي، الذي أخذ عنه حبّه للأدب والحكايات. والدته ماري ابنة خليل نحاس أحد تجّار باب توما في دمشق. هو كمعظم النخبة السياسية المسيحية (المارونية) من مجايليه خرّيج كليّة الحقوق في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت. كان محامياً لامعاً ومثقّفاً. عمل أيضاً في حقل الصحافة في جريدة “لوكلير دو جور” (ضوء النهار) و”لوجور” ومجلّة “لانفورماسيون”.
ساهم حلو شابّاً في تأسيس حزب الكتائب اللبنانية عام 1936. لكنّه سرعان ما انسحب منه بعد مدّة وجيزة. أطلّ باكراً على الحياة العامّة في عهد الرئيس بشارة الخوري الذي عيّنه أوّل سفير للبنان لدى الفاتيكان (1946 – 1949). ولأنّه كان من حزبيّة الرئيس الدستورية، تدرّج بعد السفارة في المعترك السياسي: وزيراً للعدل عام 1949، ثمّ وزيراً للخارجية عام 1951، وخاض لاحقاً الانتخابات النيابية وأصبح نائباً دستورياً عن المقعد الماروني الوحيد في بيروت. المفارقة أنّ ثمّة من يربط بين شخصيّته وشخصيّة القسّيس، وهكذا كان يرسمه الفنّان بيار صادق عندما صار الحلو رئيساً.
في حكومة فؤاد شهاب الأخيرة سنة 1964، كان وزيراً للتربية الوطنية والفنون الجميلة، حسب تسميات تلك الأيام، ثمّ وقع عليه اختيار شهاب ليصير خليفته في رئاسة الجمهورية.
انتخاب شارل حلو جاء في ذروة الاستقطاب الدولي والحرب الباردة، وفي مناخ إقليمي وعربي عاصف
النزاهة والعواصف الإقليميّة
شاءت الصدف أن يكون منافسه على الرئاسة سنة 1964 مؤسّس حزب الكتائب الشيخ بيار الجميّل، الذي حصل على 5 أصوات فقط، مقابل حصوله هو على 92 صوتاً وورقتين بيضاوين. لم يكن حلو شهابيّاً أصيلاً أو من أركانها. فهو المحامي والصحافي الفرنكوفوني الذي نشأ سياسياً في كنف بشارة الخوري والكتلة الدستورية. لكنّ الشهابية هي من صنعته رئيساً. ما قبل انتخاب شارل حلو هو نسخة عمّا قبل انتخاب كميل شمعون الذي كان ينافسه حميد فرنجية، إذ اجتمعت الأكثرية النيابية في ذلك الوقت في فندق الكارلتون، ورشّحت ابن عمّ الرئيس عبدالعزيز شهاب، لكن في الساعات الأخيرة تبدّلت المعطيات، وكانت النتيجة أن تحوّلت الأكثرية من تأييد ابن عمّ الرئيس إلى انتخاب شارل حلو.
يقول باسم الجسر أحد كوادر الطاقم والعهد الشهابيَّين: “تساءلت الأوساط السياسية عن سرّ اختيار الرئيس شهاب شارل حلو ليخلفه، بعد رفضه تعديل الدستور والتجديد له في الرئاسة، علماً أنّ حلو لم يكن أقوى المرشّحين وليس شهابيّاً معلناً. والحقيقة، أو أقرب شيء منها، هي أنّ شارل حلو كان المرشّح الوحيد الذي لم يعترض أيّ نائب أو كتلة نيابية عليه، إضافة إلى أنّ الرئيس شهاب اعتقد، كما قال لي يوماً، أنّ شارل حلو، بحكم ثقافته ونزاهته ومواقفه المبدئية، هو أفضل المرشّحين لإكمال السياسة الإصلاحية والاجتماعية التي بدأها في عهده”.
لكنّ انتخاب حلو جاء في ذروة الاستقطاب الدولي والحرب الباردة، وفي مناخ إقليمي وعربي عاصف.
اتّفاق القاهرة وإفلاس أنترا
ما نغّص ضمير شارل حلو (كان لدى رجال السياسة ضمير آنذاك) اتفاق القاهرة الذي عُقِد سنة 1969، فحاول كثيراً التنصّل منه، خصوصاً بعدما تبيّن أنّه مهد للحرب الأهلية – الإقليمية عام 1975. الاتفاق هو النقطة السوداء في عهد حلو. كان بدايةً للتفريط بسيادة لبنان وسلطة الدولة على أراضيها. وقّع على الاتفاق آنذاك رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وقائد الجيش العماد إميل البستاني عن الدولة اللبنانية. ولكن يبقى السؤال: هل كان حلو هو صاحب قرار التوقيع؟ فجهاز المكتب الثاني الشهابيّ كان يستحوذ على القرار في عهده، ظنّاً منه أنّ حلو سيكون ضعيفاً وأنّ بإمكانه الإمساك بمفاصل الحكم، فبقي شهاب الرئيس غير المنتخَب مرجعيّة الجهاز في القرار والتوجيهات.
الرئيس حلو كان مديناً برئاسته للأكثرية النيابية الشهابية، راح في السنة الثالثة أو الرابعة من عهده يفترق عن الشهابية، ويغازل المعارضة
ما لم يكن بالحسبان هو هزيمة حرب 1967 التي نتج عنها احتلال إسرائيل لسيناء المصرية والجولان السوري وتصدّع نظام عبد الناصر. في لبنان المرتبط دوماً بخارج ما انقلبت الموازين فحصل ما يشبه الانقلاب السياسي على فريق “النهج الشهابي” الذي كان لا يزال على تنسيق مع عبد الناصر: شكّل الزعماء الموارنة الثلاثة الأقوى، كميل شمعون وبيار الجميّل وريمون إدّه، جبهة معارِضة أطلقوا عليها اسم “الحلف الثلاثي” الذي خاض الانتخابات بلوائح مشتركة عام 1968 واكتسح معظم مقاعد جبل لبنان وبيروت على وقع شعارات معادية للشهابية واتّهامها بالتبعيّة لعبد الناصر.
يقول باسم الجسر في هذا السياق: “الرئيس حلو الذي كان مديناً برئاسته للأكثرية النيابية الشهابية، راح في السنة الثالثة أو الرابعة من عهده يفترق عن الشهابية، ويغازل المعارضة، متيحاً لهذه المعارضة تسجيل انتصارات سياسية كبيرة في الانتخابات النيابية عام 1968، وإسقاط مرشّح الشهابية للرئاسة، الياس سركيس، عام 1970. فهل أحرج الشهابيون السياسيون والعسكريون الرئيس حلو فأخرجوه عن تحالفه معهم؟ أم كان نموّ المعارضة المسيحية اليمينية من جهة والعروبة اليسارية من جهة أخرى بوجه المكتب الثاني والشهابيين، هو ما حمله على الحياد فالخروج عنهم؟ السؤال ما زال مطروحاً حتى اليوم”.
في الثلث الأخير من عهد حلو فجّر العامل الفلسطيني أوّل لغم في موزاييك التركيبة اللبنانية المعقّدة. كان حلو قد عاد في كانون الثاني 1969 إلى تكليف رشيد كرامي رئيساً للحكومة، وهو أحد أهمّ أقطاب الشهابية والمعروف بحنكته السياسية وبراغماتيّته ونَفَسه الطويل. وفي الشهر الرابع من عمرها تصدّعت حكومة كرامي بسبب تظاهرة تدعم العمل الفدائي الفلسطيني. حصلت مواجهة بين المتظاهرين وقوى الأمن أدّت إلى سقوط قتلى وجرحى، فقدّم وزير الداخلية عادل عسيران استقالته، واضطرّ رئيس الحكومة إلى تقديم استقالة حكومته، فدخل البلد في دوّامة أزمة حادّة دامت 7 أشهر. بعدما أُعيد تكليف كرامي الذي ظلّ مكلّفاً من دون أن يتمكّن من تأليف حكومة بسبب خلافه مع الرئيس حلو على كيفيّة التعاطي مع الوجود الفلسطيني المسلّح.
في المقابل راح “الحلف الثلاثي” يتحرّك على وقع ما يحصل من صدام بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والجيش اللبناني، فيما وقف رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي كمال جنبلاط مع حرّية حركة العمل الفدائي في لبنان. ومارس النظام البعثي السوري ضغطاً على الحكم اللبناني فأغلق الحدود مع لبنان.
شعر الرئيس حلو بحراجة الموقف: بلد بلا حكومة ويتعرّض لضغط داخلي وخارجي، فاتّصل بالرئيس شهاب طالباً النصح، فاقترح عليه الأخير الاستعانة بعبد الناصر الذي تدخّل وأنتجت وساطته اتفاق القاهرة. عزّز الاتفاق موقع القوى المساندة للوجود الفلسطيني المسلّح، وشكّل كرامي الحكومة واستعان بجنبلاط وزيراً للداخلية لطمأنة منظمة التحرير، فيما غرّد ريمون إدّه وحيداً خارج السرب معارضاً علناً اتفاق القاهرة، معتبراً أنّه ينتهك سيادة لبنان، فحصلت القطيعة مع حلفائه التي أدّت إلى انفراط عقد “الحلف الثلاثي”.
يقول الصحافي سليم نصّار إنّ “الرئيس حلو كان دائماً يُخضع قراراته الصعبة لمنطق الفيلسوف والمؤرّخ والشاعر والصحافي قبل أن يقرّر حسمها بمنطق رجل الدين ورجل القانون ورجل السياسة المؤتمَن على سلامة المؤسّسات الدستورية”. يضيف نصار أنّه “بسبب غزارة علمه وسعة اطّلاعه كان دائماً يستعير من أحداث التاريخ أمثلة لدعم وجهة نظره، الأمر الذي يفرض عليه تأجيل أهمّ القضايا وأكثرها إلحاحاً. وحجّته أنّ إرجاء الحلّ الصارم أفضل من ارتكاب الخطأ الفادح. وبناء على هذه النظرية مارس الرئيس الراحل شارل حلو دوره السياسي بتأثير من ثقافات متعدّدة حاول إقحامها في تقرير مصير البيئة اللبنانية المعقّدة.
نذير الحرب الأهليّة
في ظلّ الأجواء المشحونة انتُخب صيف 1970 سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية. دعمه معارضو النهج الشهابي من تكتّل وسطي يضمّه إلى صائب سلام وكامل الأسعد. وكان فؤاد شهاب رفض أن يترشّح مجدّداً كما كان يتمنّى عبد الناصر. ودقّ شهاب يومها ناقوس الخطر، معلناً في بيان شهير أنّ لبنان مقبل على حرب أهليّة إذا لم يتدارك الأزمة. اقترح تبنّي ترشيح إلياس سركيس الذي أثار تململاً في صفوف الشهابيين. وعلّق أحد وجوههم البارزة، صبري حمادة، قائلاً: “كيف لي أن أقفل زر جاكيتي أمام موظّف”، قاصداً سركيس الذي خسر الرئاسة بفارق صوت واحد.
إقرأ أيضاً: فؤاد شهاب: العهد الذي قرأ في “الكتاب”
غادر شارل حلو الرئاسة صيف 1970 قبيل وفاة عبد الناصر بستّة أيام (في 22 أيلول 1970). نأى بنفسه تماماً عن الحياة السياسية ما خلا مشاركته في عام 1979 في حكومة الرئيس سليم الحص التي تولّى فيها منصب وزير دولة لمدّة عشرين يوماً فقط. وكان قد شغل موقعاً مميّزاً حين رأس منظمة الفرنكوفونية التي تضمّ 88 دولة ناطقة باللغة الفرنسية.
غداً: سليمان فرنجيّة: قصر مهجور وجمهوريّة متشظّية
سليمان فرنجيّة: عهد الحرب والمجازر والدماء
المصادر:
*الجسر، “شارل حلو و”فلسفة اللاقرار” في الديموقراطية الوفاقية اللبنانية”، جريدة الشرق الأوسط 10 كانون الثاني 2001.
*شارل حلو، “مذكّراتي”، دار النهار.
*سليم نصّار، “متى تراجع الرئيس شارل حلو عن فكرة تحييد لبنان؟”، نُشر في “الحياة” يوم 13/01/2001.