يُستخدم مصطلح حفظ ماء الوجه كغشاء رقيق تُغلَّف به هزيمة طرف أمام انتصار طرف آخر.
غير أنّ هذا المصطلح لا يُستخدم حين ينتصر طرف على الطرف الآخر بصورة حاسمة، أو حين يُهزم طرف ويسلِّم بالهزيمة من دون حاجة إلى تغطيتها بمصطلح ماء الوجه.
أميركا هزمت ولم تطالب بحفظ ماء الوجه فهي أقوى دولة في العالم، وتتعامل مع هزائمها بغير اكتراث، وتعوّض عنها بثروتها الذاتية وعلاقاتها التحالفية لتخرج بعد أيام كما لو أنّها انتصرت!
تنتهي الحروب عادةً بغالب ومغلوب، أو بتسوية توصف عند إنهائها بأنّها مكسب للجميع، أو بخلاصة يملك كلّ طرف من أطرافها مسوّغاً للادّعاء بكسبها، ويُسجَّل لنا نحن العرب سبقٌ لا يضاهى في ادّعاء نصر غير مباشر من هزيمة مباشرة، ولا لزوم لسرد الأمثلة
الروس لا يأبهون للخسارات
الاتحاد السوفييتي قبل أن يتقلّص إلى روسيا الاتحادية، حين كان يُهزم من خلال حرب أو تقليص نفوذ، كان يدفع ثمن الهزيمة غير آبه بحفظ ماء الوجه، وهذا ما حدث بأوضح صورة عسكرياً في أفغانستان وعلى صعيد النفوذ في أوروبا الشرقية وغيرها من الأماكن..
في الحرب الروسية – الأوكرانية، ظهرت عدّة مصطلحات، ومنها “لا تسمحوا بهزيمة روسيا”، سواء خوفاً من انتقامها النووي أو التدميري أو التنغيص على حياة أوروبا المتعطّشة للطاقة، أو تجويع معظم دول العالم والثالث بالذات التي ترتبط لقمة عيشها بالحبوب الأوكرانية التي تملك روسيا قدرات فعّالة للحدّ من تصديرها.
ومع مصطلح “لا تسمحوا بهزيمة روسيا” يتمّ تداول المصطلح المقابل وهو “امنحوها حفظ ماء الوجه”، كدولة نووية عظمى تخشى أن يُسجّل التاريخ أنّها هُزمت في الحرب التي بدأتها والتي يُجمع المحلّلون على أنّها حرب التقديرات الخاطئة، من حيث قوّة الذات وإمكانيات الخصم وأحجام التدخّل الخارجي الذي حوّلها إلى حرب استنزاف لروسيا، حتى لو أدّت إلى تدمير أوكرانيا على وعد بإعادة بنائها.
القيادة الروسية وفي مركزها الرئيس فلاديمير بوتين، ومن ضمن خططها ومسارات حربها التكتّم على حجم الخسائر البشرية والمادّية والاقتصادية جرّاء الحرب التي قُدّرت لها أيام معدودات كي تُحسم فإذا بها تستغرق شهوراً بحيث تبدو جولاتها في الكرّ والفرّ أنّها لم ولن تُحسم على المدى المنظور، بل قد يمتدّ سنواتٍ البحثُ عن صيغة لإنهائها بما يرضي روسيا من حيث الحدّ الأدنى المطلوب، وتقع خسائر أفدح ممّا وقع حتى الآن.
ما زالت صيغة إنهاء الحرب بعيدة المنال وما يزيد الطينة بلّة أنّ الاتفاق على صيغة إجماع بين الأطراف الداعمة لأوكرانيا والتي تعتبر حربها مصيرية لأوروبا وللنفوذ الأميركي فيها يبدو غير متوافر حتى الآن، وإلى أن يتوافر ستكون الحرب دخلت مدى زمنيّاً غير مقروء المدى وحجم الخسائر.
أميركا هزمت ولم تطالب بحفظ ماء الوجه فهي أقوى دولة في العالم، وتتعامل مع هزائمها بغير اكتراث، وتعوّض عنها بثروتها الذاتية وعلاقاتها التحالفية لتخرج بعد أيام كما لو أنّها انتصرت!
الحرب في أوكرانيا وإن كانت خسائرها البشرية المتكتَّم عليها هي الأقلّ بالقياس إلى ما سبقها من حروب كونيّة، إلا أنّ خسائرها المالية والاقتصادية والسياسية والمعنوية هي الأفدح من كلّ ما سبق، وهنا لا يقتصر الأمر على إحصاء رقميّ يبيّن كم من إنسان قُتل وكم من إنسان جُرح، وكم مسيّرة أُسقطت وكم دبّابة أُعطبت، وكم من البنى التحتية دُمّرت، فكلّ هذا محشور في بقعة ضيّقة هي الأرض الأوكرانية التي ما تزال الحرب تجري داخل حدودها.
خسائر العالم لا تُعدّ ولا تُحصى
أمّا خسائر العالم فيبدو أنّ الحاسوب العملاق الذي يقدر على تحديدها بدقّة لم يُخترع بعد، فنحن حيال حرب كونيّة يشير رسمها التقريبيّ إلى ما يشبه هرماً يقف على رأسه وأمّا قاعدته فهي الكون كلّه.
تنتهي الحروب عادةً بغالب ومغلوب، أو بتسوية توصف عند إنهائها بأنّها مكسب للجميع، أو بخلاصة يملك كلّ طرف من أطرافها مسوّغاً للادّعاء بكسبها، ويُسجَّل لنا نحن العرب سبقٌ لا يضاهى في ادّعاء نصر غير مباشر من هزيمة مباشرة، ولا لزوم لسرد الأمثلة.
إقرأ أيضاً: عرفات قبل الغياب… وبعده
لم تظهر حتى الآن إشارات واعدة بوقف الحرب المشتعلة والمتطوّرة في أوكرانيا، إذ لم تعد هذه الحرب محكومة بأجندات روسية وأوكرانية، بل دخلت في صميم الأجندات الدولية التي ما زالت الولايات المتحدة راعية أوروبا هي ضابط الإيقاع فيها، فإذا كان استمرارها يخدم أجندة الإدارة الديمقراطية فلتبقَ، وإذا كان وقفها بماء وجه أو من دونه وهذا يميل إليه الجمهوريون فلتُوقَف، أو لتُبذل جهود جدّية لذلك، وفي كلتا الحالتين ستدفع كلّ الأطراف المباشرة وغير المباشرة أعلى سعر لحفظ ماء الوجه.