عرفات قبل الغياب… وبعده

مدة القراءة 5 د

آخر مرحلة من مراحل قيادة ياسر عرفات هي مرحلة أوسلو والعمل على أرض الوطن.

أنشأ ياسر عرفات وضعاً داخلياً فلسطينياً ضَمِن فيه أغلبية شعبية وفصائلية للقبول بمخرجات أوسلو، ولخوض تجربة تسوية متدرّجة تتمّ فصولها المقرّرة أو المفترَضة على أرض الوطن. وكان بديهيّاً أن تنشأ معارضة فلسطينية، غير أنّها كانت من النوع الذي يقوم على أساس تسجيل المواقف والتعاطي مع التطوّر الجديد بدرجة عالية من البراغماتية ومحاولة جني المكاسب.

الرافضون من معسكر منظمة التحرير دخلوا التجربة بأن عادوا إلى الوطن، تحت أغطية متعدّدة. وقد وفّر لهم عرفات ما يساعدهم على مواصلة الازدواجية وفق مبدأ “ارفضوا ضمن حدود… وأنا أعطيكم بلا حدود”. إلا أنّ ما أرّقه حقيقة هو ذلك الخطر الذي استشعره على المسار كلّه، والذي جسّده تنامي قوّة الإسلام السياسي ونفوذه، ورأس حربته “حماس” ومن يماثلها في الموقف، حتّى من داخل معسكر عرفات.

غاب عرفات وغاب قبله كثيرون وسيغيب بعده كثيرون، إلا أنّ الذي سيبقى حتماً هو الشعب الفلسطيني الذي كان حين بدأت نكبته يعدّ بمئات الآلاف وها هو الآن يعدّ بالملايين

سياسة احتواء “حماس”

مارس القائد الطويل الأمد لعبته المفضّلة: “الترضيات والاحتواء”، مع تجنّب المواجهات والمعالجات الجراحية قدر الإمكان. فمدّ جسور حوار مع زعيمهم الشيخ أحمد ياسين الذي كان يشبهه في بعض الخصائص الزعاميّة. فالرجل لم يكن يحبّ لقب الزعيم الروحي لحركة حماس، لأنّه ينتقص من زعامته الفعليّة. أمّا عرفات فقد حاول تقسيم “حماس” من داخلها وحاول ترويضها بما يمكن وصفه بـ”سياسة العصا والجزرة”. ففاوضها واستعان بـ”إخوان” مصر والسودان لتشجيعها على الانضواء تحت زعامته.

كان يحقّق نجاحات نسبية مع أنّه كان يدرك من خلال احترافه القيادي المليء بالتجارب أنّ “حماس” تلعب معه اللعبة ذاتها وبالطرق ذاتها.

كان يستقبل مجاملاتهم ويراقب استعداداتهم الحثيثة لتقوية الذات انتظاراً للفرصة المؤاتية للانقضاض.

كان هو وياسين حريصين بالقدر عينه على أن لا تنقطع شعرة معاوية بينهما، فدعا ياسين إلى المشاركة في اجتماعات المجلس المركزي كجرّ رِجل لدخول “حماس” الموقع الثاني بعد فتح في منظمة التحرير. غير أنّ كلّ المحاولات في هذا الاتجاه، وإن أنتجت وئاماً متقطّعاً، إلا أنّها لم تصل حدّ قيام “حماس” ولو بخطوة واحدة تُظهر استعدادها لدخول إطارات المنظّمة.

من جانبها أجّلت “حماس” الانقضاض المباشر إلى ما بعد وفاة ياسر عرفات. كانت تراقب الوضع الداخلي في العضلة الأساسية “فتح”، والعضلة الثانية “السلطة”، والعضلة الثالثة “الحالة الشعبية العامّة”، التي بدأت تشكو من جمود العمليّة السياسية، وتوقُّف التقدُّم نحو الملفّ الأساسي الذي كان يشجّع على قبول نهج أوسلو والرهان عليه، وهو أن يفضي إلى “دولة مستقلّة” بعد خمس سنوات.

كانت قراءة “حماس” للمشهد بوجود عرفات تحتّم عدم المجازفة بالصدام المباشر معه، فهي تعرف أنّه يمتلك قدرات هائلة كي يقلب الأمور رأساً على عقب حتى لو أدّى به الأمر إلى النزول ببندقيّته إلى الشارع واستنفار الملايين.

كان فعل ذلك في حربه مع المنشقّين في طرابلس والبقاع وكسب المعركة أخيراً.

كان يحقّق نجاحات نسبية مع أنّه كان يدرك من خلال احترافه القيادي المليء بالتجارب أنّ “حماس” تلعب معه اللعبة ذاتها وبالطرق ذاتها

رحيل رابين وبيريس

من جهة مقابلة، وعلى الرغم من توظيفه للانتفاضة المسلّحة، لم يقطع شعرة معاوية مع الإسرائيليين والأميركيين، ولم يستخدم أحد عبر التاريخ جملة “صديقي الراحل رابين” غير عرفات. إلا أنّه استشعر خطراً جدّيّاً يتهدّد مشروع السلام حين وقع اغتيال رابين وإسقاط شيمون بيريس، وهما الشريكان الأساسيان في المجازفة. إذ لم يرَ الأمرَ مجرّد عقبة أُزيلت بل نهاية سياسة ومسار مهدّت لقدوم مرحلة بنيامين نتانياهو وآرييل شارون بطلَيْ الإجهاز على أوسلو وصانعيها. فغاب عرفات عن المشهد بقرار إسرائيلي صريح كرّره شارون مرّات عدّة واعترف به الشريك الذي أُودع في الأرشيف شمعون بيريس حين قال: “ما كان ينبغي التخلّص من عرفات، فهو الأقدر على صنع السلام معنا”.

وما حدث بعد الغياب كان هو الأفدح والأخطر في تغيير المسارات وتحويلها إلى عكسها. فحدث ما لم يكن متخيّلاً حدوثه زمن عرفات، وهو انتصار “حماس” في الانتخابات التشريعية للسلطة.

 

نهاية أوسلو؟

كان انتصاراً يُنسب إلى الصراع الداخلي في “فتح” قبل أن يُنسب إلى قوّتها الذاتية. وحدث الانقسام الذي تطوّر على مدى أكثر من خمس عشرة سنة إلى انفصال بعدما أعيا المتدخّلين وأفشل مساعيهم لإنهائه. وحدث أن تلاشى كلّ ما أفرزته مرحلة أوسلو من إيجابيات واعدة للفلسطينيين. واستمرّ ما رأته إسرائيل مصلحة لها. وحدثت أفظع عملية تزوير للحقوق الفلسطينية الأساسية باختزالها تحت عنوان “الحلّ الاقتصادي”. فكان بديهياً أن تنشأ داخل الحالة الفلسطينية مبادرات شعبية بعضها حربي ، جاء الردّ الإسرائيلي شديد القسوة عليها، وأعاد الأمور إلى وضع مختلف تماماً. فبدل أن يعيش الفلسطينيون حالة تكون فيها فرصة للسلام فإنّهم يعيشون حالة حرب دموية أغلقت كلّ الأبواب أمام فتح أيّ مسار سياسي، يشبه المسارات التي كانت في بدايات تطبيقات أوسلو.

يثور سؤال شعبي: هل كان من الممكن تفادي كلّ هذه التطوّرات الكارثية لو بقي عرفات على قيد الحياة ولم يغب عن المشهد؟

الجواب أنّه لا يوجد في السياسة مكان لـ “لو”، بل كلّ المكان للحقائق لا للاستنتاجات التي تقوم على فرضيّة مستحيلة.

إقرأ أيضاً: في ذكرى رحيل أبي الفلسطينيّين: ياسر عرفات صانع الأمل

غاب عرفات وغاب قبله كثيرون وسيغيب بعده كثيرون، إلا أنّ الذي سيبقى حتماً هو الشعب الفلسطيني الذي كان حين بدأت نكبته يعدّ بمئات الآلاف وها هو الآن يعدّ بالملايين.

عاهد هذا الشعب الله والوطن والأجيال على أن لا يرفع راية بيضاء مهما تعاظمت قوّة الخصوم، وسيظلّ ينتج مبادرات تحمي قضيّته وحقوقه وأهدافه، ويبدو أنّ هذا هو الخيار المتبقّي والصحيح.

مواضيع ذات صلة

سيادة الرئيس.. نتمنى أن نصدقك

“لو كنتُ رئيساً للولايات المتحدة، لما اندلعت حرب أوكرانيا وغزة” هذا صدر البيت.. أما عجزه، فسوف يوقف الفوضى في الشرق الأوسط، وسيمنع اندلاع حرب عالمية…

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….