لم يعد لبنان مهمّاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة في ضوء إغلاق ما كان يُعتبر آخر جبهة عربية مفتوحة مع إسرائيل، في مقابل وضع إيران يدها على العراق مجدّداً. لكنّ لبنان لا يزال مهمّاً بالنسبة إلى العرب، أو هكذا يُفترض، بعد تحوّله إلى قاعدة إيرانيّة تنطلق منها كلّ المؤامرات على الأمن العربي، من المحيط إلى الخليج.
حاجة لبنان إلى العرب
هل لدى العرب الجدّيّين وسيلة لمعالجة الوضع اللبناني الشاذّ أم يستمرّ الاختباء خلف كلام عامّ لا علاقة له بالواقع من نوع الكلام الذي صدر عن قمّة الجزائر الفاشلة وتضمّن “إدانة كلّ التدخّلات الخارجية في الشؤون العربيّة” من دون تحديدٍ للجهة التي تتدخّل وترسل صواريخ وطائرات مسيَّرة لضرب الاستقرار في هذه الدولة العربيّة أو تلك.
كانت جبهة الجنوب اللبناني، التي تبرّع اللبنانيون بفتحها، منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في مثل هذه الأيّام من عام 1969، على حساب بلدهم وازدهاره وديمومته، بمنزلة صندوق بريد. كان الجنوب في البداية صندوق بريد بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، قبل أن يصبح، بعد عام 1982، صندوق بريد بين إسرائيل من جهة، وسوريا وإيران من جهة أخرى. في مرحلة ثالثة، صار جنوب لبنان صندوقاً لتبادل الرسائل بين “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وإسرائيل. حصل ذلك بعد عام 2005 عندما اضطرّ النظام السوري إلى سحب قوّاته من لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري في عملية تفجير مشتركة تولّت فيها دمشق توفير الغطاء للجريمة، فيما كان التنفيذ إيرانيّاً عبر أداة محلّيّة.
ليس المطلوب انتخاب رئيس للجمهوريّة على شاكلة ميشال عون أو إميل لحّود “لا يطعن المقاومة في الظهر”، على حدّ تعبير حسن نصرالله
أدوار ميشال عون الوهميّة
كان طبيعياً أن تصل الأمور إلى أن يصبح “حزب الله”، بصفته ممثّل إيران في لبنان، مَن يقرّر مَن هو رئيس الجمهوريّة في هذا البلد. لم يكن مطلوباً من ميشال عون عندما فرضه الحزب رئيساً للجمهوريّة في آخر تشرين الأوّل من عام 2016 سوى أن يكون غطاء مسيحيّاً لممارسات “حزب الله”، وصولاً إلى لعب دور مرسوم له، هو دور صاحب القرار في ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل. إنّه مجرّد دور وهميّ أُوكِل إلى ميشال عون وصهره جبران باسيل الذي كان الرئيس الفعليّ بين 2016 وآخر تشرين الأوّل 2022 حين حلّت نهاية “العهد القويّ” الذي لم يكن سوى “عهد حزب الله”.
أيّ دور جديد لـ”حزب الله” في لبنان وعبر لبنان في وقت لم يعد سرّاً أنّ ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل كان من دون استشارة النظام السوري؟ ما لا بدّ من ملاحظته وتأكيده أنّ إيران وحزبها اللبناني تجاهلا بشّار الأسد تجاهلاً كلّيّاً. هذا ما يفسّر رفض دمشق استقبال وفد لبناني كان ميشال عون ينوي إرساله إلى العاصمة السورية لبحث موضوع ترسيم الحدود البرّية والبحريّة اللبنانية – السوريّة. لم يكن القرار القاضي بإرسال مثل هذا الوفد اللبناني إلى دمشق سوى مشروع ذي طابع تمويهيّ لإخفاء أنّ “حزب الله” صاحب قرار ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل. كذلك كان بمنزلة جائزة ترضية لبشّار الأسد الذي لا يزال يحاول إظهار أنّه لا ينفكّ يمتلك القرار ونوعاً من الشرعيّة في بلد، اسمه سوريا، واقع تحت خمسة احتلالات.
بيروت مدينةً للحوثيّين
لا يغيب عن الجهات العربيّة ذات الثقل أنّ بيروت صارت بفضل “حزب الله” ثاني أهمّ مدينة للحوثيّين بعد صنعاء. كيف استعادة بيروت بدل تركها لمصيرها، أي إلى أن تتحوّل إلى ضاحية فقيرة من ضواحي طهران؟
الجواب، بكلّ بساطة، أن ليس المطلوب انتخاب رئيس للجمهوريّة على شاكلة ميشال عون أو إميل لحّود “لا يطعن المقاومة في الظهر”، على حدّ تعبير حسن نصرالله، بل المطلوب انتخاب رئيس للجمهوريّة لا يطعن لبنان في الظهر. معنى ذلك أنّ لبنان في حاجة إلى رئيس للجمهوريّة لا يكون غطاء للمشروع التوسّعي الإيراني الذي هو كناية عن مسلسل طعنات قضت على لبنان وهجّرت مسيحيّيه وغيّرت طبيعته. لبنان العربي مستهدفٌ قبل أيّ شيء آخر. جرى عزله عن محيطه العربي حسب خطّة مدروسة تُوّجت بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة كي يذهب إلى أبعد ممّا ذهب إليه إميل لحّود. اعتبر إميل لحّود أنّ اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005 مجرّد “رذالة”. لكنّه لم يستطع منع قيام المحكمة الدوليّة الخاصة بلبنان التي كشفت مَن وراء الجريمة. في المقابل، نجح ميشال عون وصهره في منع أيّ تحقيق دولي في تفجير مرفأ بيروت يوم الرابع من آب 2020، كي تبقى الجريمة غامضة يقف خلفها مجهول.
يحاول هذا المجهول في الوقت الحاضر إيجاد رئيس للجمهوريّة يستكمل عهد ميشال عون – جبران باسيل، خصوصاً في ما يخصّ تكريس العزلة العربيّة للبنان وتكريس سقوطه تحت الاحتلال الإيراني.
المقاومة طاعنةً لا مطعونة
نعم، هناك دور عربي للحؤول دون الانهيار النهائي للبنان. يتمثّل هذا الدور في تفادي السقوط في فخّ الرئيس الذي لا يطعن المقاومة في الظهر. في الواقع، ليس مطلوباً طعن المقاومة لا من خلف ولا من أمام بمقدار ما المطلوب توقّف المقاومة عن طعن لبنان وما بقي منه تحت شعارات مختلفة صبّت في نهاية المطاف في ترسيم الحدود البحرية بما يخدم استغلال إسرائيل لحقل كاريش فيما لبنان يتفرّج، وفيما إيران تنفّذ انقلاباً، بمباركة أميركيّة، في العراق.
إقرأ أيضاً: يذهب ميشال عون… ويستمرّ “عهد الحزب”
يظلّ الفراغ أفضل من رئيس لبناني يختاره الحزب، ومن خلفه إيران. نعم للفراغ الرئاسي إذا كان الخيار الآخر استكمال عهد ميشال عون – جبران باسيل عبر دمية من الدمى المسيحية الموجودة في الساحة، وما أكثر هذه الدمى وما أقلّها في الوقت ذاته بوجود مرشّح معروف للحزب.
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@