واشنطن وموسكو.. واللقاء السرّيّ

مدة القراءة 3 د

كُشف أخيراً عن إجراء مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان محادثات لم يتمّ الكشف عنها مسبقاً مع كبار المسؤولين الروس على أمل الحدّ من مخاطر امتداد الحرب في أوكرانيا أو تصعيدها إلى صراع نووي. وقالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، التي كشفت عن اللقاء، إنّ سوليفان أجرى محادثات سرّيّة في “الأشهر الأخيرة” مع نظيره نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن الروسي، ويوري أوشاكوف، مساعد الرئيس بوتين.

وبمقدار المفاجأة بالخبر فقد كان هذا هو المتوقّع، وكان يجب أن يتمّ من اللحظات الأولى للحرب في أوكرانيا، ولعدّة أسباب كرّرها العقلاء ويقتضيها المنطق والعمل السياسي. إذ لا يُعقَل أن تكون هناك حرب بلا مفاوضات، ولا يُعقل أن تكون هناك حرب مع دولة تمتلك ترسانة نووية من دون مفاوضات تحدّ من احتمال نشوب خطر نووي، إذ لا بدّ منها لإيجاد مخرج يحفظ ماء الوجه لكلّ الأطراف، وإيقاف حرب مكلفة على المجتمع الدولي بأسره، وتجنّب وضع دولة نووية في الزاوية من دون توقّع عواقب وخيمة.

تمثّل المفاوضات الأميركية الروسية السرّيّة مؤشّراً جيّداً إلى عودة “بعض” العقلانية في واشنطن

تأخّرت إدارة بايدن بهذه المفاوضات التي كان يجب أن تجري منذ أوّل يوم للحرب، فالمفاوضات لا تعني رضوخاً ولا ضعفاً، وإنّما هي طبيعة العمل السياسي حتى في وقت الحروب، لكنّ السؤال هو: لماذا الآن؟

التاريخ المعلَن لهذه المفاوضات غير محدّد، وما نُقل هو أنّها تمّت في “الأشهر الأخيرة”، وهذه معلومات فضفاضة، لكنّ الأكيد أنّ لها أسباباً عدّة متعلّقة بالولايات المتحدة نفسها، وبالحلفاء الأوروبيين أيضاً.

الأكيد أنّ هذه الحرب طال أمدها، وتبعاتها الاقتصادية مكلفة على الجميع، الولايات المتحدة والأوروبيين، هذا عدا عن الكلفة المتوقّعة بعد الحرب من أجل إعادة إعمار أوكرانيا. وهي حرب مكلفة تماماً على الروس، وتلك قصّة أخرى ستطول تداعياتها.

والأكيد أنّ تلك المفاوضات السرّيّة لم تكن فقط بسبب خشية اندلاع صراع نووي، وإنّما لأنّ نَفَس مؤيّدي الحروب قصير، سواء كانت حرباً مستحَقّة أو لا، والأهمّ دائماً وأبداً هو الشقّ الاقتصادي لأنّه يمسّ حياة الناس اليومية.

لم تُظهر معالجة الولايات المتحدة للحرب في أوكرانيا جدّية حقيقية، بل اندفاعاً واستسهالاً، كما هي الحالة الروسيّة عندما قرّر الرئيس بوتين شنّ الحرب. وبالتالي من الواضح أنّ عدّة عوامل أدّت إلى عودة إدارة بايدن إلى الطرق الدبلوماسية المعروفة في الحروب.

إنّ العوامل كثيرة، ومنها التململ الأوروبي، وإن لم يكن معلناً بعد، لكن يُتوقّع ظهوره بوضوح عندما يشتدّ الشتاء، وكذلك أزمة الغذاء وتداعياتها العالمية، وأزمة الطاقة، والأهمّ بالنسبة إلى الإدارة والحزب الديمقراطي والأميركيين هو الانتخابات النصفية.

إقرأ أيضاً: “الهبل” السياسيّ

ظهرت أخيراً مؤشّرات تدلّ على تململ من الديمقراطيين بسبب طريقة إدارة دعم الحرب في أوكرانيا، ومؤشّرات الانتخابات النصفية التي تشير إلى انقسام أميركي حادّ على قضايا داخلية صرفة، وليس على الحرب في أوكرانيا، أو ما يحدث في العالم.

وعليه تمثّل المفاوضات الأميركية الروسية السرّيّة مؤشّراً جيّداً إلى عودة “بعض” العقلانية في واشنطن، لأنّه لا يمكن أن تضحّي واشنطن في معركتها مع موسكو بآخر أوكراني، وتحمّل المجتمع الدولي تبعات حرب ما كان يجب أن تحدث بالأساس.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: tariqalhomayed@

مواضيع ذات صلة

وحدة “العبر الاستراتيجية” بين “الحزب” و”حماس”

استراتيجية واحدة في لبنان كما في غزّة، بما يوحي أن لا انفكاك بينهما، وهي “المماطلة والانتظار”، لعلّ الفرج يأتي في قابل الأيّام أو الأشهر. وفي…

الآليّة عقدة الطّربوش في التّفاوض مع إسرائيل

ما خلا “الحزب”، لا أحد من الأفرقاء اللبنانيّين يمانع التفاوض مع إسرائيل، انسجاماً مع المبرّر الذي ساقه رئيس الجمهوريّة جوزف عون من أن لا خيار…

من وطن الرّسالة إلى الدّولة الفاشلة: كيف انهار النموذج اللّبنانيّ؟

كيف سقط لبنان من قمّة النموذج إلى قاع الفشل؟ هل كان محكوماً حتماً بهذا المصير؟ كيف انقلب وطن الرسالة إلى دولة التخبّط والعجز؟   واصل…

لبنان مُعضلة الشّرق: هل تهبّ عاصفة ترامب؟

يجد لبنان نفسه بعد اتّفاق غزّة أمام تحدّيات جمّة تتمثّل بشكل رئيس في السباق بين الجهود الدبلوماسيّة والتصعيد العسكريّ على نطاق أوسع، وسط مؤشّرات متزايدة…