كما في نهايات أبطال الأساطير، سقط هذا الفارس العنيد عن صهوة جواده. كان مقاتلًا استثنائيًا برع في المعارك. أحبّ فلسطين، وحمل اسمها وطار به فوق السحب ليجد لها مكانًا بين الدول. ثم سقط أبو الفلسطينيين جميعًا، الذي أحبّ شعبه المثخن بالجراح، بعدما أدمته حراب سنوات التيه والضياع والمنافي.
كاتب قصّة فلسطين
إنّه ياسر عرفات، أحد الأبطال التراجيديين، وأبو المفارقات والتناقضات والإبداعات. مغامر وواقعي في آن. مقاتل وصانع سلام. عنيد وجبّار وإنسان. وديع إلى أبعد الحدود. براغماتي ومتشدّد في آن. يقبل القسمة في سائر المتناقضات. لا يخشى الغوص بيديه وقدميه في الدروب كلها.
كما في نهايات أبطال الأساطير، سقط هذا الفارس العنيد عن صهوة جواده. كان مقاتلًا استثنائيًا برع في المعارك. أحبّ فلسطين، وحمل اسمها وطار به فوق السحب ليجد لها مكانًا بين الدول
أوغل عرفات في رمزيّته حدّ الأسطورة. كان هو الحكاية الفلسطينية والتغريبة الفلسطينية والتراجيديا الفلسطينية والأغنية الفلسطينية والعلم الفلسطيني. ولا يمكن أن تكتمل “الحدّوتة” الفلسطينية من دون ذكر بطلها ياسر عرفات. ولا يمكن فهم “أوديسة” الضياع الفلسطيني وسيمفونية النضال الوطني والكفاح المسلّح من دون البدء بياسر عرفات ورفاقه في العمل الوطني وحركة فتح. فهو بداية كلّ حديث عن فلسطين، ليس لأنّه أوّل من حمل السلاح وأشار بفوهة بندقيّته نحو فلسطين. وليس لأنّه نجح ورفاقه في فرض فلسطين في أصعب معادلة في القرن العشرين، وفجّروا ثورة المستحيل في منطقة النفط. وليس لأنّ أبا عمّار ورفاقه هم الذين أعادوا تأسيس الشعب الفلسطيني في الملاعب السياسية، وحوّلوه من سديم غير محدّد المعالم إلى حالة وطنية تموج بالثورة. وليس لأنّه ذلك الرجل الذي تقدّم الصفوف متّكئًا على جسده النحيل كجسر لعودة شعبه من عواصم الضياع والمنافي إلى جغرافيا الوطن والسياسة.. بل لأنّه خليطٌ جميلٌ من هذا كله.
متفائل وسط السواد
كان يحلم وكنّا نصدّقه. كان يقول إنّ الدولة على مرمى حجر وكنّا نصدقه. وربّما ذلك هو نور اليقين الذي قذفه الله في قلبه. ونور الحقّ الذي صافح به الرجل قمّة جبل الجرمق. كان عرفات الثائر والمفاوض يعيد ترتيب كوفيّته لينثرها على خارطة فلسطين، على الرغم من كلّ المستحيلات.
لقد وضع أبو عمّار الكوفيّة الفلسطينية ليستفزّ كلّ عناصر الوعي المكبوت للشعب الفلسطيني، وكلّ مكوّنات تاريخ اللاجئين الفلسطينيين وهويّتهم المهدَّدة بالذوبان في كيانات أخرى. ومع الوقت تحوَّل عرفات إلى طيف رمزيّ قادم من عالم الحكايات والأساطير، وجزء أصيل من الهويّة الفلسطينية. نحن الذين صنعناه، إنما صنعنا معه وفيه أحلامنا، حاجتنا النفسيّة، وعينا الجماعي، صراعنا من أجل البقاء.
حتّى الذين اختلفوا معه، لم يختلفوا عليه. وظلّ عرفات رقمًا صعبًا على الكسر وخارج المنافسة. كانت مهولةً القدرةُ الحدسيّة لياسر عرفات أو ما يُعرَف بالإلهام الداخلي. مع أنّه كان شغوفًا بجمع المعلومات والتفاصيل وسماع تحليلات المحيطين به، إلا أنّه كما يبدو كان يستخدم كلّ هذه المعلومات والتحليلات لتأكيد أو نفي قراراته التي سيتّخذها بناء على حدسه المتطوّر. كانت تعقيدات وتشابك العوامل المؤثّرة على الوضع الفلسطيني مهولة ومتشابكة ولم يكن التحليل أو البحث العلمي كافيَيْن ليغطّيا كلّ جوانبها. فمسرح الحدث غير محكوم بجغرافيا محدّدة، والكتلة السياسية غير متجانسة أيديولوجيًّا، واللاعبون السياسيون من كلّ جنس ولون، فكان لا بدّ من الأسلوب الحدسيّ في المعرفة واتّخاذ القرار. وفي الإطار العامّ عندما نعود إلى مسار الأحداث، كانت كلّ القرارات الحدسيّة التي اتّخذها أبو عمّار أكثر دقّة من التحليل الصحافي أو الأكاديمي. وعلى هذا الصعيد يتحدّث المقرّبون منه: كان يفاجئ الجميع حين يقفز من سفينة إلى سفينة مخالفًا كلّ التوقّعات والرهانات وتقديرات الموقف، وسائرًا عكس التيار.
وضع أبو عمّار الكوفيّة الفلسطينية ليستفزّ كلّ عناصر الوعي المكبوت للشعب الفلسطيني، وكلّ مكوّنات تاريخ اللاجئين الفلسطينيين وهويّتهم المهدَّدة بالذوبان في كيانات أخرى
أسرار شخصيّته النفسيّة
ياسر عرفات صاحب الكاريزما القيادية والشخصية البسيطة المركّبة التي تجمع بين الليونة والحزم العسكري والدهاء السياسي. وفي هذا السياق يحلّل الطبيب النفسي الدكتور فضل عاشور صفات بارزة في شخصيّة عرفات:
“أمام ياسر عرفات نحن تحديدًا أمام نمط من الشخصيات يُعرَف بالشخصية المنشرحة. وهي شخصية مرتفعة المزاج والإيجابية بحيث إن المزاج دائمًا بل وفي أحلك الظروف يميل إلى التفاؤل والقدرة على رؤية أضواء في نهاية النفق. فهو يرى نفسه عائدًا إلى فلسطين ويلوّح بإشارة النصر على الرغم من أنّه يغادر بيروت على بواخر المنافي بعيدًا عن فلسطين. وبسرعة يستطيع صاحب هذه الشخصية بثّ روح التفاؤل في المحيطين به وشعبه الذي قصمت ظهره الحياة بما يشبه العدوى، ولديه قدرة جيّدة على فهم الجانب الساخر للحدث”.
امتلك عرفات أيضًا شخصية فائقة الديناميكية. فهذا النمط من الشخصية “دينامو حركة” لا يهدأ ولا يتوقّف عن الحركة، والعمل لديه ليس واجبًا أو وظيفة فحسب، بل هو نمط وجود يجب أن يعمل دائمًا. والإحساس بالإرهاق لديه أقلّ من المعدّل العامّ، إضافة إلى أنّ نشاطه الذهني يكون دائمًا في حالة مرتفعة ومتّقدة. فهو يستطيع الانتباه والتركيز على مواضيع عدّة دفعة واحدة، ويستطيع التذكّر بسهولة مهما تراجعت الذاكرة مع تقدّم السنّ. وبحكم تسارع التفكير عمومًا، تكون عاليةً قدرتُه على استخدام ما هو متوافر لديه من خلال الربط المنطقي بين الظواهر.
فهو يستطيع أن يزجّ بهذه القدرة في حيّز العمل بكامل طاقتها من ضمن نشاطه الذهني المرتفع. قد يكون هناك أفراد لهم مستوى ذكاء أعلى من أصحاب هذه الشخصية، لكنّهم على عكسها لا يستطيعون أن يستخدموا كامل طاقة ذكائهم، بمعنى أنّ هذا الذكاء يستمرّ كطاقة “استاتيكيّة” لا طاقة ذكاء ديناميكية كالتي يتمتّع بها أصحاب الشخصية الديناميكية المنشرحة.
تتحوّل هذه الشخصية من دون أن تسعى أو تتصنّع إلى “بلدوزر” لا شيء يستطيع إيقافه في مسار الحركة التاريخية، لأنّها تلقائيًا تصبح مركز وروح أيّ مجموعة تقع في وسطها. فحجم اندفاع وديناميكية هذا النمط من الشخصيّات لا يمكن لبقيّة أعضاء المجموعة منافسته، خصوصًا عندما تدخل شخصية كهذه معترك السياسة والأيديولوجية ولديها قضية عادلة وخلفيّة تعليمية وثقافية عالية ودوافع وطنية أصيلة.
أمام ياسر عرفات نحن تحديدًا أمام نمط من الشخصيات يُعرَف بالشخصية المنشرحة. وهي شخصية مرتفعة المزاج والإيجابية بحيث إن المزاج دائمًا بل وفي أحلك الظروف يميل إلى التفاؤل والقدرة على رؤية أضواء في نهاية النفق
وثائق جديدة
كانت مجموعة على تطبيق “تيليغرام” تحمل اسم “أيقونة الثورة” نشرت وثائق تُعرَض للمرّة الأولى، لمناسبة الذكرى الثامنة عشرة لرحيل الرئيس ياسر عرفات. وتشمل إفادات وشهادات مسؤولين حاليين وسابقين في السلطة الفلسطينية تتّصل باغتيال عرفات. ومن بينها شهادة مستشار الرئيس عرفات والناطق باسم الرئاسة نبيل أبو ردينة، التي أدلى بها أمام لجنة التحقيق في 2012، وتحدّث فيها عن رفع الغطاء الدولي عن الرئيس عرفات بدلالة أنّه لم يجرؤ أيّ رئيس عربي خلال الأشهر الأخيرة على الاتصال به. ويقول أبو ردينة إنّ آخر زعيم عربي اتّصل بعرفات قبل وفاته بأربعة أشهر كان الرئيس المصري حسني مبارك، وأبلغه بالحرف الواحد أنّ “الاتّصال قد يكون مسجّلًا.. وأنصحك أن تسلّم السلطة، وأنا أعرف عمّا أتكلّم”. وكشف أيضًا أبو ردينة عن طلبات سياسية وأمنيّة قدّمها وزير الخارجية الأميركي كولن باول إلى عرفات تؤدّي إلى وقف انتفاضة الأقصى وتسليم كلّ المطارَدين. وشدّد أبو ردينة على أنّ “عرفات لم يتنازل ولم يوقف الانتفاضة ولم يقدّم أيّ تنازل، لذلك كانت هناك مؤامرة إسرائيلية – أميركية لإنهاء عهد عرفات”.
يسرد مستشار الرئيس تفاصيل واقعةٍ حدثت قبل ثلاثة أشهر من اغتيال عرفات، عندما زاره صحافي إسرائيلي مقرّب منه يُدعى “آمنون كابليوك”، وقال له: “في إسرائيل يبحثون هل من المصلحة قتل عرفات أم لا، وجميعهم قالوا نعم.. لكنّ أحدهم قال: على ألّا نترك أيّ بصمات”. ويرجّح أبو ردينة أنّه تمّ تسميم الرئيس من خلال شخص يقدّم له مشروب القهوة أو الشاي بشكل منفرد، مستبعدًا أن يكون تمّ تسميمه عبر الطعام أو موادّ مشعّة، لأنّه اعتاد أن يأكل مع آخرين، ولو جرى ذلك لظهرت أعراض على آخرين.
في هذا السياق، أكّدت سهى عرفات، زوجة الشهيد ياسر عرفات، أنّها لن تسمح ?حد باستخدام قضيّة أبي عمّار سلاحًا لمحاربة أعدائه.
وقالت عرفات، عبر قناتها على “الإنستاغرام”، إنّ “الجميع أصبح يتّهم الجميع بقتل أبي عمّار، والتحقيقات والشهادات التي يتمّ نشرها في قضيّة الرئيس الراحل يجب أن تكون سرّية وفق القانون وأن لا تخضع لتصفية الحسابات”. وتابعت: “لا يخفى على أحد الخلاف السياسي بين أبي عمّار وأبي مازن، لكنّ الإشارة المبطّنة إلى أبي مازن في الشهادات هي أيضًا عار وعيب كبيران”، مُوضحةً أنّ القيادة كانت دائمًا على خلاف بعضها مع البعض الآخر.
إقرأ أيضاً: نتانياهو يقود قطار اليمين والعنف مع الفلسطينيين
وأردفت: “لا أنسى أن أقول كلمة حقّ. وهي أنّ أبا مازن هو من أصرّ على فتح القبر عندما طلبنا منه أنا وزهوة”. واستكملت: “أثبت أهمّ معهد سموم للإشعاعات في العالم، وهو المعهد السويسري، أنّ أبا عمّار قُتل بسمّ مادة البولونيوم 210 القاتلة. وهذا السمّ لم يكن يُعرف عنه شيء قبل 2006”.
على الرغم من مضيّ سنوات طوال على رحيل عرفات الجسديّ، إلا أنّ الفلسطينيين في الوطن والشتات ينتظرون عودته. فأبطال الأساطير والملاحم دائمًا يعودون مرّة أخرى. أو على نحو أدقّ، عرفات لم يخرج من الحكاية لأنّه البطل الأسطوري لهذه الحكاية، والأبطال لا يموتون وهم في حبكة الحكاية.
رحم الله ياسر عرفات وكلّ شهداء فلسطين.
*كاتبة فلسطينية