واشنطن بعد طهران تكتشف “ثورة” الرياض!

مدة القراءة 7 د

تكشف طبيعة السجال المثير للاهتمام بين واشنطن والرياض، في وضوح عباراته وفي لبس نهاياته، واقع التحوّل الكبير الذي حصل في السعودية مقابل رتابة مقاربات الولايات المتحدة وكسل أدواتها في التعامل مع ما استجدّ في عالم هذه الأيام، وخصوصاً في السعودية بالذات.

تتالت زياراتي للسعودية منذ عام 2004 لحضور مؤتمرات أكاديمية أو ثقافية وإعلامية. كانت الدعوات مختلفة المصادر، وإحداها كانت من وزارة الإعلام لأداء مناسك الحج. أتاحت المناسبات اكتشاف المملكة وأحوالها وإدراك الأسئلة التي كثيراً ما كانت لا تجد أجوبة شافية. كان يُخيّل للزائر أنّ السعودية ساكنة تراقب حركيّة الآخرين.

في نقاش النخب السعودية آنذاك، ولا سيّما تلك الأكاديمية المتخرّجة من جامعات دولية، كنت أستنتج أناةً وصبراً في تحمّل أسئلة مكرّرة عن حرّيات المجتمع والسماح للمرأة بقيادة السيّارة، خصوصاً أنّ القضيّة كانت رائجة وكأنّها قضية البلد الأولى. وفي كلّ مرّة، حتى من قبل تلك الشريحة المتعلّمة المتأثّرة بتجربة الإقامة والدراسة في الغرب، كان أيضاً الجواب معلّباً غير مقنع يكرّر لازمةَ أنّ “المجتمع غير جاهز للتغيير”.

تمثّل “ثورة” بن سلمان ما تمثّل بالنسبة إلى السعوديّة والسعوديّين، لكنّها تمثّل “ثورة” أخرى في تاريخنا وتاريخ منطقتنا ستكون لها تداعيات جذرية لا تقارَن في أهميّتها بتلك التي أحدثها ما سُمّي “ربيعاً” في منطقتنا

ثورة في عهد الملك سلمان

مَن يتأمّل مليّاً كيف تغيّرت السعودية منذ تبوّؤ الملك سلمان بن عبد العزيز عرش المملكة عام 2015، يستنتج ذلك الانقلاب التاريخي الذي حوّل مسار البلاد باتجاه مآلات لم يكن أحد في العالم، حتى في السعودية نفسها، يتوقّع أو يجرؤ على استشرافها. ومَن يتابع ديناميّة وليّ العهد الأمير محمد وطموحاته الشجاعة في اختراق الزمن لانتشال بلاده من الماضي، يدرك تلك الثورة الحقيقية التي استيقظ العالم على وقائعها.

لا تحبّ السعودية ولا يحبّ السعوديون تعبير “الثورة”. يحيلهم المفهوم إلى أدبيّات أيديولوجية لطالما كانت المملكة تمقتها. غير أنّ ما خطّه الأمير محمد برعاية والده لا يمكن إلا أن يكون ثورة بالمعنى الذي يقطع مع منطقٍ وسياقٍ وينقل البلد والمجتمع والمؤسّسات في السياسة والأمن والدفاع والاقتصاد إلى واقع آخر لا رجعة عنه، واقع تبدأ معه السعودية تاريخاً آخر يستنتجه حائرين أصدقاءُ المملكة وحلفاؤها قبل الخصوم.

لم يعد التأمّل والصمت الذي يقابِل به السعوديون العالم وزوّاره هما حال البلاد. بات للسعودية مشروع تنموي هائل نقل المجتمع السعودي برمّته من حقبة زمنية تنتمي إلى الأمس إلى حقبة زمنية مفتوحة نحو المستقبل. أكثر من ذلك، بات للسعوديين قضيّتهم التي يدافعون عنها ببراعة وكفاءة. ولم يعد السعوديون يكتفون بالتحصّن في صفوف خلفيّة لتأمّل جلبة مَن يتحدّث عن قضايا الآخرين.

بالنسبة إلى السعوديين تمثّل تلك “الثورة” ارتقاءً سريعاً في يوميّاتهم ومشروعاً ينخرطون داخله يتعاملون معه بصفته وليد “لحظة” تاريخية حملها إليهم أمير شابّ جاهر علناً وبشجاعة بإطلاق قطيعة نهائية مع زمن “الصحوة”. 

من الفتاوى… إلى الحداثة

لم يكن هناك مواربة أو حاجة إلى مرحلة انتقالية لطالما وُعِدَ بها السعوديون منذ عقود. انتقل البلد من تقاليد الفتاوى والدعاة وسياسات التحفّظ وعدم القول إلى حركيّة الحداثة الكاملة المتعايشة مع معايير الحاضر في العلم والتكنولوجيا والعصرنة كما مع ثقافة الإقدام والشفافيّة والقول الصريح.

باختصار توضح الأميرة ريما بنت بندر بن سلطان، سفيرة السعودية في واشنطن، لـCNN قبل أيام أنّ “هذه المملكة ليست المملكة التي كانت قبل خمس سنوات وليست ما كانت عليه قبل 10 سنوات”.

تكشف طبيعة السجال المثير للاهتمام بين واشنطن والرياض، واقع التحوّل الكبير الذي حصل في السعودية مقابل رتابة مقاربات الولايات المتحدة وكسل أدواتها في التعامل مع ما استجدّ في عالم هذه الأيام، وخصوصاً في السعودية

تُزعج هذه السعودية الجديدة، وتُربك تلك العواصم الحليفة. عواصم ارتاحت للمملكة في السابق، متّسقةً ومتناغمةً مع إرادات الكبار. وإذا بالسعودية تتحوّل إلى رقم صعب داخل منظومة دولية قلقة في تحوّلاتها. حتّى إنّ الولايات المتحدة، التي امتلكت مع السعودية علاقات استراتيجية تاريخية منذ لقاء الملك عبد العزيز بالرئيس فرانكلين روزفلت عام 1945، والتي يتوعّد رئيسها جو بايدن هذه الأيام بمراجعة علاقات بلاده مع الرياض، تستنتجُ كم أنّ تحوّلات السعودية باتت مطلقةً نهائيةً تحتاج معها واشنطن فعلاً إلى تحوّلات.

تمثّل “ثورة” بن سلمان ما تمثّل بالنسبة إلى السعوديّة والسعوديّين، لكنّها تمثّل “ثورة” أخرى في تاريخنا وتاريخ منطقتنا ستكون لها تداعيات جذرية لا تقارَن في أهميّتها بتلك التي أحدثها ما سُمّي “ربيعاً” في منطقتنا.

“تصدير” قيم الانفتاح

في الحديث قبل سنوات مع الأصدقاء السعوديين كانوا يُفاجأون من تعبير استخدمته سرعان ما فهموا مقصده وارتاحوا إلى معانيه. كنت أردّد أنّ السعودية تمتلك من الإمكانات الجيوستراتيجية والتاريخية والتراثية والدينية والاقتصادية والمالية ما يمكّنها من “تصدير” قيم الانغلاق أو الانفتاح. وها هي السعودية، بما تمتلكه من قوّة، “تصدّر” للمنطقة العربية مشروعاً “أمميّاً” للقطيعة مع الماضوية والعتمة وللانخراط في منظومة قيم مضادّة للتعصّب ومكافِحة للتحجّر وراعية للعقل والانفتاح.

إثر قيام نظام الخميني في إيران عام 1979 تحصّنت السعودية على طريقتها مقدّمةً نموذج “الصحوة” نقيضاً معانداً يواجه النموذج المترجّل المتوثّب في طهران. غير أنّ مشروع السعودية اليوم يمثّل تياراً معاكساً يعرّي عقائد الحكم في طهران ويجرّدها من أوراق الحُجّة والبيان، وهذا تماماً ما يُغضب منابر طهران هذه الأيام ويفسّر التقارير عن خطط لمهاجمة المملكة. 

تأثير السعودية… في إيران

مَن يراقب بعناية تفاصيل حراك الناس في مشهد وطهران وتبريز وزهدان وغيرها، وتوق المجتمع إلى زمن آخر، لا بدّ أن يستنتج ما أحدثته “ثورة” السعودية وما “تصدِّره” من واجهات بديلة في كلّ المنطقة. أنهت الرياض زمناً كان الدين فيه سلاحاً يواجه سلاح الدين على الجهة الأخرى. باتت السعودية المتمسّكة بالإسلام تُشهر أسلحة قيميّة لا يملكها الحاكم في طهران، لكنّها تجد لها صدىً لدى الناس المنتفضين في إيران على نحو بات فيه الجدل يخترق دوائر الحكم حول “الجمهورية” ومرشدها.

اختارت السعودية في “ثورتها” نهجاً يحرّرها من معايير صارت متقادمة ويمنحها استقلالية وقوّة وديناميّات لا تريد واشنطن أن تفهمها ولا تريد طهران أن تؤمن بنهائيّتها ولا تريد عواصم المصالح أن تستسلم لقواعدها. الأمر يُنتج عدوانيّة بنيويّة جلفة ما انفكّت تعبّر عنها إيران بحرسها وميليشياتها كما بمنابر الحكم داخلها، وأخرى خبيثة تصدر عن عواصم تزعم الحلف والصداقة وتستخدم لها ما توافر من قوى ناعمة وخشنة.

مسألة الوقت والزمن

على الرغم ممّا حقّقته من إنجازات سريعة صاعقة، ما زالت “ثورة” الرياض في بداياتها. سبق للأمير محمد أن تحدّث عن مسألة الوقت والزمن وضرورات حرق المراحل. ولئن تتمّ صيانة تلك التحوّلات بدأب وحذر في الداخل، فإنّ أمن المملكة و”لحظتها” التاريخية يحتاجان إلى بيئة آمنة خارج الحدود. وإذا ما طوّرت المملكة علاقاتها الدولية، ولا سيما شرقاً، وحدّثت نهجها داخل المنطقة العربية في تأكيد الثوابت والتعامل برشاقة مع المتغيّر، فإنّه حريّ تفحّص يوميّات ما تقارِب به السعودية شؤون العالم.

إقرأ أيضاً: السعوديّة ردّاً على تهديدات إيران: عروبة العراق أوّلاً

في موقف السعودية من ضمن منظمة “أوبك +” من مسألة سوق الطاقة، وفي مقاربتها للوضع في لبنان خلال السنوات الأخيرة (تأمّل رعايتها لمؤتمر في بيروت حول “الطائف”)، وفي انخراطها ضمن حوار بدا عقيماً مع إيران، وفي إقدامها على تطوير علاقاتها مع العراق، وفي سعيها إلى وحدة مجلس التعاون الخليجي والتغلّب على انقسامه، وفي عملها على فتح صفحة جديدة مع تركيا… تمارين تُعيد معها الرياض قراءة العالم، ولا سيّما العربي، وتثبّت موقع المملكة حجر زاوية لأيّ تحوّلات بدا أنّها باتت تعتبر “ثورة” الرياض من ثوابت العالم الحديث.

منطقيٌّ أن يخاصم الخصوم السعودية وأن يتكاثروا في مواسم نجاحها، لكنّهم جميعاً يُقرّون بتلك “الثورة” في الرياض.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…