إسرائيل اليمينيّة في عالم تغيَّر

مدة القراءة 6 د

كلّما تشكّلت حكومة إسرائيلية برئاسة بنيامين نتانياهو، تصدر تعليقات فحواها أنّ هذه الحكومة هي الأكثر يمينيّة منذ قيام دولة إسرائيل. يستطيع “بيبي” في كلّ مرّة التفوّق على نفسه من أجل العودة إلى موقع رئيس الوزراء. نراه هذه المرّة في تحالف مع اليمينيّ المتطرّف إيتمار بن غفير أحد أبرز الوجوه السياسية في إسرائيل اليوم. صار بن غفير رئيساً لثالث أكبر حزب سياسي في إسرائيل هو “الصهيونية الدينية”. كذلك، تحالف زعيم الليكود مع عضو الكنيست المتطرّف بيتساليئيل سموتريتش.

يمثّل بن غفير (45 عاماً)، الذي طلب من نتانياهو تعيينه في موقع وزير الأمن الداخلي، أسوأ ما في المجتمع الإسرائيلي الذي يزداد مع مرور الوقت تطرّفاً. وُلِد في ضواحي القدس الغربية لعائلة يهوديّة من أصول شرقيّة. والده يهوديّ عراقيّ، ووالدته من أصول يهوديّة كرديّة. خلال مراهقته تبنّى أفكار حركة “موليدت” المتطرّفة التي أسّسها رحبعام زئيفي عام 1988، والتي كانت تدعو إلى “ترحيل الفلسطينيين من أرض إسرائيل”. في سنّ الـ14 انضمّ بن غفير إلى حركة “كاخ” الأشدّ تطرّفاً والممنوعة في إسرائيل والولايات المتحدة، والتي أسّسها الحاخام اليهودي من أصول أميركية مائير كاهانا، والمعروفة بتطرّفها العنصري الشديد إزاء كلّ ما هو غير يهودي وضدّ الفلسطينيين والعرب على وجه الخصوص، وبالتحريض الدائم على قتلهم. ومن أشهر أتباع الحركة وتلاميذ كاهانا، الإرهابي باروخ غولدشتاين الطبيب المولود في بروكلين الذي هاجر إلى إسرائيل، وعاش في مستوطنات الخليل وقتل 29 فلسطينيّاً في أثناء تأديتهم الصلاة في الحرم الإبراهيمي عام 1994. لا تزال صورة غولدشتاين على أحد جدران منزل بن غفير “تمجيداً له وتقديراً لقتله الفلسطينيين”.

يستطيع “بيبي” في كلّ وقت تغيير جلده. سيكون عليه هذه المرّة القيام بتغيير في العمق يفرضه الواقع الداخلي والإقليمي والدولي

كانت الجريمة التي ارتكبها غولدشتاين في حقّ الفلسطينيين بدايةً لمسلسل العنف الذي قاد إلى العمليات الانتحارية التي نفّذتها “حماس” والتي استهدفت القضاء على أيّ أمل في تسوية سلميّة في أعقاب توقيع اتفاق أوسلو في حديقة البيت الأبيض في أيلول من عام 1993. تُوّج المسلسل باغتيال إسحق رابين في الرابع من تشرين الثاني 1995 على يد يهودي متطرّف يُدعى ييغال عمير. كانت تلك نهاية أوسلو على يد متطرّفين من الجانبين. لا يزال قاتل رابين يحكم إسرائيل منذ تلك اللحظة. ليست الحكومة التي سيشكّلها “بيبي” سوى نتيجة طبيعية لصعود اليمين المتطرّف في إسرائيل بدعم من مجموعات فلسطينيّة متطرّفة، وضعت نفسها في تصرّف قوى خارجية، من نوع “حماس” أو “الجهاد الإسلامي”. عملت هذه المجموعات كلّ ما تستطيع من أجل خدمة اليمين الإسرائيلي المتطرّف الذي وقف في وجه أوسلو تحت شعار “لا وجود لطرف فلسطيني يمكن التفاوض معه”. الأكيد أنّ هناك لوماً يمكن وضعه على السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة التي انبثقت عن أوسلو. لم تدرك السلطة الوطنيّة يوماً أهمّيّة عامل الوقت، علماً أنّ في الإمكان طرح تساؤلات محورها السؤال التالي: هل أرادت إسرائيل يوماً التوصّل بالفعل إلى سلام مع الفلسطينيين؟

لم تفوّت “حماس” وكلّ الذين يقفون خلفها، خصوصاً النظام في إيران، فرصةً إلّا واستغلّتها من أجل ضرب أيّ مشروع سلام مهما كان هذا المشروع متواضعاً. يحصد اليمين المتطرّف الإسرائيلي والإخوان المسلمون نتيجة ما زرعوه. ليس “بيبي” نتانياهو العائد إلى موقع رئيس الوزراء سوى رمز لهذا التحالف بين متطرّفين الذي جسّده مرتكب مجزرة الخليل في عام 1994 من جهة، والعمليات الانتحارية لـ”حماس”، وهي عمليات لعبت دورها في جعل المجتمع الإسرائيلي حذراً حيال كلّ ما له علاقة بالسلام، من جهة أخرى.

يبقى أنّ الأهمّ من ذلك كلّه: هل تستطيع حكومة إسرائيلية جديدة تضمّ وزراء من طراز إيتمار بن غفير أن تكون مقبولة أميركياً وأوروبياً وفي المنطقة؟ الجواب أنّ مثل هذه الحكومة لا تستطيع العيش في هذا العالم، بما في ذلك التعاطي مع العالم العربي حيث باتت دول عدّة تقيم علاقات طبيعيّة مع إسرائيل.

لن تكون مثل هذه الحكومة قادرة على التعاطي مع دول المنطقة ولا مع الداخل الإسرائيلي. ستكون حكومة من دون أفق سياسي، اللهمّ إلّا إذا كانت تسعى إلى خوض معارك تحت شعار: عليّ وعلى أعدائي.

يستطيع “بيبي” في كلّ وقت تغيير جلده. سيكون عليه هذه المرّة القيام بتغيير في العمق يفرضه الواقع الداخلي والإقليمي والدولي. سيعني ذلك تشكيله حكومة تضمّ اليمين المتطرّف في المستقبل القريب، على أن يلجأ إلى تحالفات مع شخصيّات مقبولة في مرحلة لاحقة. من بين هذه الشخصيّات بيني غانتس وزير الدفاع في حكومة يائير لابيد، وهو رئيس سابق للأركان. تكمن أهمّيّة غانتس في أنّه يعرف المنطقة ولديه علاقات جيّدة في الولايات المتحدة.

لا يمكن لإسرائيل، في حال كانت تريد بالفعل مواجهة الخطر الإيراني، الانطواء على نفسها والتخلّي عن الدعم الأميركي. فوق ذلك كلّه، مهما علا صراخ بن غفير وغيره، ومهما لجأ نتانياهو إلى مناورات سياسيّة، ستواجه إسرائيل عاجلاً أم آجلاً الحقيقة المتمثّلة في وجود ما بين سبعة وثمانية ملايين فلسطيني بين البحر المتوسّط ونهر الأردن. هناك مليونا فلسطيني في إسرائيل نفسها ومليونا فلسطيني في غزّة وثلاثة ملايين فلسطيني في الضفّة الغربيّة. ثمّة حاجة إلى حلّ سياسي سيفرض نفسه، لا لشيء سوى أن لا مجال لتذويب هذه الكتلة البشريّة الفلسطينيّة، وخصوصاً أنّ ثمّة ما يجمع بين الفلسطينيين بغضّ النظر عن مزايدات “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.

إقرأ أيضاً: نتانياهو ملكاً على إسرائيل

فاز تكتّل ليكود في الانتخابات الإسرائيليّة. متى راجعنا تاريخ “بيبي” نكتشف أنّ الرجل سياسي انتهازي من الدرجة الأولى. لديه ميل طبيعي إلى التخريب والجمود بحجّة خلق واقع استيطاني على الأرض، خصوصاً في الضفّة الغربيّة، لكنّه يعرف في الوقت ذاته أنّ المرحلة ليست مرحلة الدخول في مواجهة مع الإدارة الأميركيّة الحالية على غرار ما فعله مع إدارة باراك أوباما. العالم تغيّر في ضوء حرب أوكرانيا وفي ضوء التهديد الإيراني لدول المنطقة. لا تستطيع إسرائيل التكيّف مع التغيُّرات العالميّة بحكومات تضمّ إرهابيّاً مثل إيتمار بن غفير!

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…