كان للرئيس الشهيد رفيق الحريري كتلة نيابية واسعة ينتمي أعضاؤها إلى أديان ومذاهب ومناطق متعدّدة، وكنتُ أشغل مهمّة الأمين العامّ لهذه الكتلة.
وبموجب هذه المهمّة كنتُ، لدى دعوة الكتلة إلى الاجتماع، أعدّ مسبقاً البيان الذي سوف يصدر عنها، لأنّني كنتُ ملمّاً بالمواقف الرئيسة الثابتة للرئيس الحريري التي يُفترض أن تلتزم بها الكتلة.
لكنني كنتُ أحتفظ بمشروع البيان إلى ما بعد انتهاء الاجتماع. حتى إذا طرأ موقف جديد، أو تبلورت فكرة جديدة، أتولّى تعديل النص بما يتوافق مع ما استجدّ.
لم يكن نصّ اتفاق الطائف صناعة عربية أو دولية. كان في جوهره صناعة وطنية لبنانية داخلية
الطائف لبنانيٌ وممنوعٌ سورياً
أذكر أنّ الرئيس الشهيد، يرحمه الله، طلب منّي من دون شرح أو تفسير أن أحذف من مشروع نصّ بيان أعددته باسم الكتلة، كلّ ما يشير إلى موضوع الدعوة إلى “تطبيق اتفاق الطائف”. لم يشرح لي يومها أسباب ذلك. ولما أعدتُ الإشارة إلى ضرورة الدعوة إلى تطبيق الاتفاق في اجتماع آخر، وفي بيان آخر، قال لي: “دخيلك ما تفتح لي هذه السيرة.. هل تريد أن تعلّقني مع السوريين؟”.
منذ ذلك الوقت أدركتُ أنّ تطبيق اتفاق الطائف ممنوع سوريّاً. فتوقّفتُ عن الإشارة إليه في البيانات التي كانت تصدر عن كتلة الرئيس النيابية حتى كان استشهاده.
في الأساس لم يكن نصّ اتفاق الطائف صناعة عربية أو دولية. كان في جوهره صناعة وطنية لبنانية داخلية. فقبل انعقاد القمّة العربية في المغرب التي دعت إلى عقد مؤتمر الطائف، وقبل توجّه النواب إلى المملكة العربية السعودية للاشتراك في هذا المؤتمر، كانت المرجعيّات اللبنانية، السياسية منها والروحية، تعمل على إعداد نصّ مشترك للوفاق الوطني. الرئيس حسين الحسيني والرئيسان سليم الحص ورشيد كرامي مع المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد حمّلوني مقترحات إلى بكركي للبطريرك الراحل نصر الله صفير، وإلى الأشرفية للرئيس الراحل كميل شمعون.
كان تبادل المقترحات يستهدف الاتفاق على صيغة وطنية مشتركة إسلامية – مسيحية لحلّ الأزمة، وفتح صفحة جديدة في الوفاق الوطني والعيش المشترك.
لمّا دُعِي النواب إلى مؤتمر الطائف لم يكن الاتفاق الداخلي قد اكتملت بنوده كافّة، إلا أنّ العديد من القضايا الوطنية قد تمّ الاتّفاق والتفاهم عليها. وقد أكّد لي الرئيس حسين الحسيني أنّ أكثر من 75 في المئة من نصّ اتفاق الطائف كان قد تمّ التوافق عليه قبل الطائف بين القيادات اللبنانية من خلال هذه الاتصالات.
قبل انعقاد القمّة العربية في المغرب التي دعت إلى عقد مؤتمر الطائف، وقبل توجّه النواب إلى المملكة العربية السعودية للاشتراك في هذا المؤتمر، كانت المرجعيّات اللبنانية تعمل على إعداد نصّ مشترك للوفاق الوطني
قذائف لعرقلة التواصل التوافق
بالفعل تلقّت المرجعيات الروحية الإسلامية والمسيحية قبل اتفاق الطائف (1989) دعوةً من اللجنة العربية، التي كان يرأسها وزير خارجية الكويت (ثمّ أصبح أمير الدولة)، إلى لقاءٍ مع اللجنة في قصر المؤتمرات بالعاصمة الكويتية. وهناك صدر بيان كلّفني بإعداده البطريرك صفير على الرغم من أنّني كنتُ مستشاراً للمفتي الشهيد الشيخ حسن خالد. وقرأ البطريرك الأرثوذكسي هزيم، يرحمه الله، البيان على الصحافيين، ففوجئت اللجنة العربية بما نصّ عليه البيان من تفاهم إسلامي – مسيحي على المستوى الوطني.
هذا يعني أنّ اللبنانيين كانوا مقتنعين بوجوب التفاهم وحتميّته قبل الطائف، وأنّهم عملوا على بلورة وتبادل الأفكار الرئيسة والتأسيسية، لكنّهم في كلّ مناسبة كانوا يتداعون إلى الاجتماع في بيروت كانت تنهمر القذائف التي تقطع طرق الاتّصال والتواصل.
استمرّ ذلك حتى بادرت المملكة العربية السعودية إلى إزالة العقبات التي كانت تحول دون عقد هذا الاجتماع، فدعت إلى اللقاء في الطائف، ثمّ كان اتفاق الطائف. ومن المؤسف أنّ العديد من بنوده التأسيسية، التي تنصّ على ولادة لبنان الجديد، لم تنفَّذ، ومنها:
– إلغاء الطائفية السياسية.
– اعتماد المركزية الإدارية الموسّعة.
– إنشاء مجلس شيوخ.
– انتخاب مجلس نيابي محرَّر من القيد الطائفي.
إقرأ أيضاً: أنطوان مسرّة لـ”أساس”: هذه خارطة طريق تطبيق اتّفاق الطائف
لو أنّ هذه الإصلاحات التجديدية وجدت طريقها إلى الواقع الجديد، لكان لبنان أمس، واليوم، وغداً، غير لبنان الذي ينهار أمام أعين سياسيّيه. لقد كان لأصحاب الأمر والنهي حسابات أخرى، فكان تعطيل الاتفاق إلى حدّ تحريم المطالبة بتنفيذه حتى وصلنا مع الجنرال عون إلى ما نحن عليه اليوم.