33 سنة على إقرار اتفاق الطائف. شُنّت حروب وصيغت مؤامرات لإسقاطه. تساقط البعض من المتآمرين، والبعض الآخر بدأ بالتراجع معلناً تمسّكه به مباشرة أو بالواسطة. إلا ان اتفاق الطائف بقي هو الحلّ. الخشبة الوحيدة التي يمكن لنا كلبنانيّين التعلّق بها للنجاة بوطننا وسط هذه الأمواج العاتية. لافتاً كان المفتي الجعفري الشيخ أحمد قبلان عندما أعلن الاسبوع الفائت التمسّك باتفاق الطائف وبوجوب تنفيذه، ناسخاً بذلك كل دعواته السابقة لتغيير النظام، ومتراجعاً عنها.
“تطبيق الطائف” ليس مطلباً بل هو حاجة وطنية ووصفة وحيدة كي يبقى لنا وطن اسمه لبنان.
من هنا يفتح “أساس” ملف “تطبيق الطائف” في الذكرى الـ33 على إقراره، وذلك من خلال سلسلة مقالات وحوارات مع شهود على ولادته، وحرّاس على تطبيقه. حوار اليوم مع المرجع الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة.
ثلاث خطوات حدّدها المرجع الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة كخارطة طريق لتطبيق اتفاق الطائف، وهي:
1- إرادة أخلاقية واحترام المواثيق.
2- تأليف لجنة علميّة لتسهيل فهم الاتفاق.
3- تطبيق المادة 65 من الدستور المتعلّقة بعمل مجلس الوزراء، وكيفيّة اتّخاذ القرارات فيه.
يرتسم اتفاق الطائف في ملامح عضو المجلس الدستوري السابق الدكتور أنطوان مسرّة ويسكن في كلّ زاوية من زوايا منزله في الأشرفية، هذا المنزل الذي بُني عام 1860 وتعاقبت عليه أجيال وأجيال
منزل في الأشرفية يحتضن الطائف
… يرتسم اتفاق الطائف في ملامح عضو المجلس الدستوري السابق الدكتور أنطوان مسرّة ويسكن في كلّ زاوية من زوايا منزله في الأشرفية، هذا المنزل الذي بُني عام 1860 وتعاقبت عليه أجيال وأجيال.
يفضّل الدكتور مسرّة عدم الحديث عن اتفاق الطائف، بل التحدّث من الزاوية العلمية والدستورية عن الدستور اللبناني: “من الأفضل علمياً ودستورياً أن نتكلّم عن الدستور اللبناني لأنّ كلّ وثائق الطائف أُدخلت في الدستور اللبناني، والدستور اللبناني بعد اتفاق الطائف هو ما أُدخل عليه بموجب اتفاق الطائف، وهذا أصبح دستور لبنان نتقيّد به جميعاً. يوجد في الأدب الروماني القديم وفي التراث العربي والإسلامي مبدأ عريق جدّاً: “أكتاس ونت سيرفاندا”، بمعنى أنّ المواثيق يجب أن تُحترم، وعبارة ميثاق في اللغة العربية وفي التراث الإسلامي عريقة جداً ولا تعني العقد، بل هي تعهّد بالالتزام على المدى الطويل. إذاً يجب أن توجد إرادة أخلاقية في احترام المواثيق، ومن لا يحترم المواثيق فهو غير جدير لا بالتقدير ولا بالثقة. وهذا ينطبق على الحياة الفردية أيضاً، حيث يجب أن تحترم التعهّدات، وإدمون ربّاط يُسمّيها التعهّدات الوطنية. وبالإضافة إلى مشكلتنا في توصيف اتفاق الطائف الذي هو الدستور اللبناني، عندنا مشكلة أخلاقية في عدم احترام المواثيق، وهذا بالغ الخطورة من الناحية الأخلاقية، لأنّ الميثاق هو تعهّد، وكلمة ميثاق في اللغة العربية وفي الإسلام بالذات بالغة الأهمية”.
المادة 95 من الدستور هي الخطوة الأولى
يضيف الدكتور مسرّة: “في ميثاق الطائف وفي مقدّمة الدستور اللبناني ورد بوضوح كامل أنّ لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه. نقطة ثانية تتعلّق بالذين يتكلّمون عن تطبيق اتفاق الطائف. إنّ أسس التطبيق وأسس التطوير موجودة في الدستور ذاته. فالدستور اللبناني نصّاً وروحاً يتضمّن كلّ المبادئ والشروط المعيارية في سبيل التطوير، ويتكلّم بشكل خاصّ عن المادّة 95 التي تنصّ على إنشاء هيئة وطنية متخصّصة بدراسة كيفيّة تخطّي الطائفية. هذا البند لم يُفهم بكلّ عمقه، ومعناه أنّه يجب إخراج هذا الموضوع من السجال السياسي، سجال الشارع، ومن المداولات بين غير الاختصاصيّين، وتأليف هيئة متخصّصة لدراسة كيفية تطبيق قاعدة التمييز الإيجابي ومبدأ الإدارة الذاتية. وبالفعل عبارة طائفية هي عبارة متداولة في اللغة العامّة، لكن ليست لغة علمية. التعبير الدستوري لهذا الموضوع هو قاعدة التمييز الإيجابي أو قاعدة الكوتا، التي طرحناها في لبنان من أجل النساء، وهي مُطبّقة في 30 أو 40 دولة في العالم ضمن شروط ومعايير وحدود. لدينا المادّتان 9 و10 من الدستور اللتان تذكران الإدارة الذاتية في بعض القضايا، وهي نابعة من التراث الإسلامي بالذات في ما يتعلّق بأهل الذمّة والملّة والتعدّدية الحقوقية، وهي مثل واحد يزور الطبيب ويقول له “معي وجع بالمعدة أو ألم بالمعدة”، وهذا تعبير عامّ، لكنّ الطبيب عليه أن يشخّص الحالة، فهل هي سرطان بالمعدة أو قرحة بالمعدة أو عسر هضم أو حساسية، وعندما يُحدّد الحالة ويشخّصها بوضوح يعالجها. إذاً توجد بلبلة كاملة لدى مثقّفين بدون خبرة أو لدى قانونيين، ولا أقول حقوقيين، في هذا الموضوع، والمادة 95 هي روعة في المخيّلة السياسية بالقول إنّه يجب تأليف هيئة متخصّصة في القانون وعلم الاجتماع وعلم التربية لدراسة الموضوع. وسأعطي مثالاً على ذلك. في فرنسا منذ حوالي عشر سنوات تألّفت لجنة برئاسة “برنارد ستازي” لدراسة كيفية تطبيق العلمانية في فرنسا، ووضعت تقريراً من 200 صفحة علمية في هذا الموضوع. وفي كندا تألّفت لجنة “بوشار” لدراسة كيفية تطبيق بالنسبة للمهاجرين والواردين إلى كندا. هذا هو المسار العلمي الفعّال في تطوير الموضوع”.
عن تأليف اللجنة العلمية يقول الدكتور مسرّة في حديث لـ”أساس”: “الموضوع علميّ ويتطلّب علماً في القانون وعلم الاجتماع والتربية وعلم النفس، والمادة 95 نفسها تنصّ على إلغاء الطائفية. حين تريد تفسيرها تقول إلغاء الطائفية السياسية، وهذا يعني أنّ هناك التباساً في المفهوم، ولذا يجب توضيح هذه القضية ودراستها علمياً. سأعطي مثالاً: في الهند تُطبَّق قاعدة التمييز الإيجابي على ما يُسمّى طبقة المنبوذين، و”يا محلا الطوائف عندنا في لبنان”. طبّقوا عليهم قاعدة الكوتا لأنّ وضعهم سيّئ جداً اجتماعياً واقتصادياً ولأنّهم معزولون عن الحكم. لكي يدخلوا الحكم ومن أجل تحسين أوضاعهم بالهند تمّ تأليف حوالي عشرين لجنة خلال 30 سنة لدراسة كيفية تطبيق قاعدة التمييز الإيجابي بشكل يحترم مبدأ المساواة ومبدأ الكفاءة ومبدأ المصلحة العامة. هذا هو النهج العلمي”.
الطائف لم يمسّ جوهر الدستور
يرى الدكتور مسرّة أنّ اتفاق الطائف لم يمسّ جوهر الدستور اللبناني، بل كرّس مبادئ وعمل على إيضاحها، فيقول: “الطائف كرّس مبادئ أساسية أوضحها في الدستور اللبناني، خاصة في مقدّمة الدستور، لكن لم يُدخل أموراً جديدة، بمعنى الجديدة. بعض القانونيين يقولون انتقلت السلطة من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء. هذه أمور تقنيّة، لكنّها لا تغيّر في الجوهر، فالجوهر أنّ لبنان نظامه برلماني قائم على فصل السلطات وعلى إدارة التعدّدية بأشكال متنوّعة لضمان عدم العزل الدائم وضمان المشاركة. وأوضح الدستور شيئاً مهمّاً جدّاً جدّاً، فمقدّمة الدستور هي تكريس نهائي لمبادئ هي لبنانية فيما جذورها عربية وإسلامية، إلا أنّ الجديد، لكن بمعنى التوضيح والتأصيل، في اتفاق الطائف هو توضيح المادتين 49 و65. أنا عشت هذه التجربة. رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة يسهر على احترام الدستور. كثيرون وأكثرهم اعتبروا ذلك بلاغة كلامية، لكنّ هذا ليس بلاغة كلامية، بل بالعكس، فأنت في مجتمع تعدّدي من 18 طائفة، وأنت بحاجة إلى قائد أوركسترا يحمي الكتاب باستمرار ويسهر على احترام الدستور، وهذا من طبيعة النظام الدستوري في لبنان. فسويسرا مثلاً لا يوجد بلد في العالم توجد فيه خصوصيات أكثر منها، سواء خصوصيات مناطقية أو دينية أو لغوية، لكنّ ما يجمع سويسرا في 22 كانتوناً ونصف هو الدولة ومفهوم الدولة ورئيس الدولة، على نمط الرئيس فؤاد شهاب وعلى نمط بعض رؤساء الجمهورية”.
الطائف أعطى رئيس الجمهورية ما لم يكن له
ينفي الدكتور مسرّة أن يكون اتفاق الطائف انتقص من صلاحيات رئيس الجمهورية، بل يؤكّد أنّه أعطى الرئيس ما لم يكن له قبل الاتفاق، قائلاً: “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة بمعنى أنّه لا ينسج علاقات نفوذ وسلطة وتناحر وأحجام، فقوّته من الدستور اللبناني. والدستور هو فوق الجميع، والرئيس حارس الدستور وملك دستوري، ولا ينتظم لبنان حتى في أفضل الأوضاع وحدةً وتضامناً إلا من خلال رئيس جمهورية قوّته ليست بذاته، بل بحمايته للدستور على نمط ملكة بريطانيا”.
في ما يتّصل بالمادة 65 التي تشكّل العنصر الثالث من عناصر تطبيق الاتفاق يقول الدكتور مسرّة: “المادة 65 من الدستور هي مادة “مبدعة” في العلم الدستوري. تقول إنّ اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء يكون إمّا بالتوافق أو بالتصويت، وحدّدت 14 قضية تحتاج إلى أكثرية الثلثين. هذه المادّة لا مثيل لها، وبالفعل هي رائعة في العلم الدستوري العالمي، لماذا؟ لأنّها تحول دون طغيان أقليّة وضدّ طغيان أكثريّة، وتؤمّن التصويت من دون تحكّم أقليّة، لكن تمّ تفسير هذه المادّة، عفواً لم يكن تفسيراً، بل تمّت المخادعة في هذه المادة مع عبارة الثلث وعبارة التعطيل، إذ ليس في الدستور اللبناني عبارة ثلث ولا عبارة تعطيل. ذات مرّة في مؤتمر دولي في البريستول قلت: إذا وجدتم كلمة تعطيل في أيّ دستور في العالم قديم أو جديد فأروني إيّاها. إنّ هدف القانون هو تسيير الأمور. لقد تمّت المخادعة في هذه المادة، وأنا عايشت فترة ما أُثير في قضية المادة 49. أرجوك بعد اليوم لا يجوز وأجزم لا يجوز لأيّ شخص يعتبر نفسه عالماً في القانون الدستوري أن لا يدرس جذور وثيقة الطائف. أنا عندي هذه الوثيقة، وجذورها هي ثمرة إنتاج لبناني أصيل مثل الكشك والقورما”.
إقرأ أيضاً: اتّفاق الطائف: خريطة طريق للإصلاح في لبنان
السيادة مفتاح تطبيق الطائف
يعتبر الدكتور مسرّة أنّ خارطة الطريق المذكورة في البنود الثلاثة لا تستقيم إلا إذا كانت الدولة تتمتّع بالسيادة ولا وجود لحالة احتلال فيها، فيقول: “لا يستقيم أيّ دستور في العالم إذا كانت الدولة لا تتمتّع بالسيادة في بلد فيه حالة احتلال. لا يستقيم أيّ تنظيم دستوري حتى لو كان في بريطانيا أو فرنسا أو سويسرا. لا يستقيم أيّ دستور حتى في المجتمع الراقي حضارياً إذا كان لا يتمتّع بالسيادة. في فترة الاحتلال السوري كان ممنوعاً على الحكومات ذكر اتفاق الطائف، وكذلك الأمر بالنسبة إلى باقي الاحتلالات”.