يزداد المشهد السياسي والحزبي التركي سخونة وتعقيداً كلّما اقترب موعد أصعب وأهمّ انتخابات برلمانية ورئاسية تشهدها البلاد منذ عقود، في شهر حزيران المقبل من عام 2023، الذي ستُحسم فيه حرب داحس والغبراء وتنتهي لعبة الكرّ والفرّ السياسيّين ومناورات الحكم والمعارضة من خلال الصناديق.
الشباب يهجر العدالة والتنمية
أطلق حزب العدالة والتنمية أكثر من مشروع إنمائي اقتصادي خدماتي في الآونة الأخيرة، بينها السيّارة الكهربائية “توغ” المصنوعة في تركيا، والمنوي دفعها إلى الأسواق خلال عامين، ووضع حجر الأساس لقناة اسطنبول التي تحمل بصمة إقليمية ودولية وستكون رديفاً أساسياً للمضائق التركية. هذا إلى جانب ملفّات إقليمية عدة مكّنت الحزب عينه من تسجيل إنجازات استراتيجية في الأشهر الأخيرة، وأبرزها المصالحات مع دول المنطقة والدور المحوري على خط التهدئة بين روسيا وأوكرانيا.
حسّن حزب العدالة والتنمية موقعه وفق التقديرات الانتخابية الأخيرة التي كشفت أحدث استطلاعات الرأي التركية عنها. لكنّ ذلك لا يعني أنّ المسألة حُسمت لصالحه. فالوقت مبكر جداً، سياسيًا تظهر دائماً مفاجآت في آخر لحظة، والـ 24 ساعة الأخيرة فترة زمنية طويلة لصناعة الكثير.
يزداد المشهد السياسي والحزبي التركي سخونة وتعقيداً كلّما اقترب موعد أصعب وأهمّ انتخابات برلمانية ورئاسية تشهدها البلاد منذ عقود، في شهر حزيران المقبل من عام 2023
لكنّ الحزب الحاكم ما زال يعاني أزمة فشله في إقناع عنصر الشباب بالوقوف إلى جانبه، كما تقول استطلاعات الرأي. وهو لم يراجع علاقته مع رموز الحزب الذين غادروا أو تمّت تنحيتهم في السنوات الأخيرة وباتوا خارج اللعبة السياسية والحزبية وتركوا فراغاً حزبياً وشعبياً كبيراً، مثل بولنت أرينش وحسين شليك وجميل شيشاك. كما لم يدخل في تعديل بنية النظام الرئاسي والتعامل بجدّية مع الانتقادات العديدة الموجّهة إلى الممارسة والتطبيق على الرغم من وعود الإصلاح والمراجعة.
الحجاب والتحالفات
آخر الاختراقات السياسية التي سجّلها حزب العدالة كانت خطوة التواصل مع “حزب الشعوب الديمقراطية” الذي ابتعد عنه سياسياً منذ سنوات، بعدما التقى وزير العدل التركي بكير بوزداغ على رأس وفد حزبي رفيع بقيادات من “حزب الشعوب” لبحث اقتراح إجراء تعديلات دستورية في موضوع الحجاب ومعرفة مدى احتمال دعم الأخير لمشروع قانون يستعدّ الحزب الحاكم لطرحه قريباً في البرلمان.
المسألة عاديّة جداً لو لا التالي:
1- تحالف الجمهور، الذي يقوده “حزب العدالة” في الحكم، مع داعمَيْه “حزب الحركة القومية” و”حزب الوحدة الكبرى”، كان هاجم “حزب الشعوب” وحمّله أكثر من مرّة مسؤولية لعب دور الداعم “لحزب العمّال الكردستاني” المتّهم بالإرهاب في داخل تركيا وخارجها.
2- التحالف كذلك انتقد أحزاب المعارضة بسبب علاقتها وتواصلها السياسي مع هذا الحزب الذي يعاني احتمال حظره بقرار من المحكمة الدستورية.
3- ثمّ أعلن التحالف استمرار رفض الاجتماع بقيادات حزب الشعوب أو دعوتها إلى احتفالات مركزية له. حتى إنّه لم يعايده كما تقول الكثير من الأصوات والأقلام المعارضة في تركيا.
عوّل البعض على موقف متشدّد لدولت بهشلي، حليف إردوغان، يقلب من خلاله الطاولة وينهي الشراكة بإحداث انفجار سياسي في العلاقات بين الشريكين بعد لقائهما. لكنّ بهشلي فاجأ الكثيرين بإعلانه أنّ من يراهن على نشوب خلافات بين حزب العدالة والحركة القومية التي يرأسها، عليه أن يبحث عن ذلك في مكان آخر، وأنّ الزيارة خطوة عادية طبيعية بين الأحزاب السياسية تحت سقف البرلمان.
تغييرات سياسية مفاجئة
هكذا تطايرت علامات التعجّب والاستفهام في الأجواء التركية عن أسباب ودوافع خطوة سياسية من هذا النوع: هل قرّر حزب العدالة الانفتاح حقّاً على حزب الشعوب الديمقراطية الذي كان وما زال هدفاً أساسياً له في حملاته وانتقاداته؟ لماذا يفعل ذلك وما الذي يبحث عنه؟ هل يريد الانفتاح على القواعد الكردية في جنوب شرق تركيا التي تصوّت لحزب الشعوب وتدعمه منذ سنوات؟ كيف سيخرج من ورطة ردود فعل مناصري تحالف الجمهور الذي يدعمه؟ خصوصاً الصوت اليميني والقومي المتشدّد؟ حتى لو نجح في تجاوز عقدة المعارضة ومطبّاتها.
سيكون لردّة الفعل على هذا اللقاء المفاجىء تأثيرها، شئنا أم أبينا، داخل الحزب أوّلاً، وداخل حزب الحليف اليميني “الحركة القومية ” ثانياً، وعلى مستوى العلاقة داخل حلف الجمهور وارتدادات ما جرى على قرار القواعد الشعبية ثالثاً، حتى لو تجنّب دولت بهشلي الدخول في نقاش أو مواجهة مباشرة مع حزب العدالة بعد هذه الخطوة. جاء أبرز المؤشّرات إلى ذلك من خلال رد الفعل السياسي والإعلامي المعروف والداعم لحزب العدالة محمد متينار الذي كتب: “إذا ما كان حزب العدالة قرّر التواصل مع حزب الشعوب فعليه بعد الآن أن لا ينتقد الأحزاب الأخرى عندما تفعل ذلك”.
الحزب الحاكم ما زال يعاني أزمة فشله في إقناع عنصر الشباب بالوقوف إلى جانبه، كما تقول استطلاعات الرأي. وهو لم يراجع علاقته مع رموز الحزب الذين غادروا أو تمّت تنحيتهم في السنوات الأخيرة
اتُّهم حزب الشعوب الديمقراطية دائماً بعدم تحديد موقفه من حزب العمال الكردستاني، وأنّه الشريك السابع من وراء الستار للطاولة السداسية المعارضة، واعتُبر أنّه وقع في ورطة الحظر بسبب مقاضاته أمام المحكمة الدستورية. وعلى الرغم من كلّ ذلك تذهب قيادات العدالة لزيارته والتواصل معه لبحث فرص التنسيق في مسألة تعديل مادّة الحجاب في الدستور، بهدف إجراء تعديلات دستورية لضمان حقّ الحجاب لدى المرأة، وحماية حقوق المحجبات في البلاد.
ستسأل أحزاب المعارضة وقياداتها حتماً: لماذا حلال على الحزب الحاكم التواصل مع حزب الشعوب الذي تدعمه أغلبية الأصوات الكردية في جنوب شرق البلاد، وحرام عليها الإقدام على خطوة من هذا النوع؟ لكن بالطبع لن يكفيها ذلك، فهي تحتاج إلى قوة دفع جديدة في مواجهة حزب العدالة أبعد من الاقتصاد والأوضاع المعيشية، فمن الذي سيعطيها ما تريد؟
ربّما تكون الإجابة عند حزب الشعوب الديمقراطية، لكنّه يريد مقايضة سياسية حقيقية في الطريق إلى الصناديق. فهل يتحوّل حزب الشعوب إلى بيضة قبّان الانتخابات المقبلة فيجلس وسط لعبة التوازنات والمعادلات السياسية والحزبية الحسّاسة في تركيا، خصوصاً في حال مراجعته للعديد من مواقفه السياسية والعقائدية التي يتبنّاها؟ وكيف ستتشكّل لعبة التحالفات والاصطفافات السياسية والحزبية حتى ذلك الوقت؟
خيارات حزب الشعوب
تراجعت أصوات حزب العدالة والتنمية في العامين الأخيرين، وهي تراوح بين 31 و35 في المئة. لكن لا يعني ذلك أن يصبّ التحوّل في مصلحة حزب الشعب الجمهوري أقوى أحزاب المعارضة الذي لم تصل شعبيّته في أحسن الأحوال إلى 27 في المئة من مجموع الأصوات. المستفيد الأوّل والأكبر من لعبة التحوّلات في المواقف وقرارات الناخب هو الحزب الجديد، الذي انشقّ عن حزب الحركة القومية، والذي نجح في تكوين شعبيّة تصل إلى 13 في المئة حسب معظم الاستطلاعات.
قد تجري المناورات السياسية الكبيرة وسط مساحة ضيّقة ومع تمريرات طويلة أو تسجيل أهداف بضربات ركنية غير متوقّعة في مرمى الخصم في آخر لحظة. هذا ما أثبتته قيادات العدالة والتنمية في الأسابيع الأخيرة، وما منحها فرصة الصعود من جديد.
يستفيد إردوغان وحزبه أيضاً من تراجع شعبية حزبَيْ أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان وفشلهما في صناعة سياسة يمينية جديدة بديلة لحزب العدالة. إذ لا يتجاوز مجموع أصوات كلا الحزبين نسبة 4 في المئة بعد كلّ الضجيج السياسي والإعلامي الذي سجّلاه بإعلان انسحابهما من الحزب الحاكم.
اتُّهم حزب الشعوب الديمقراطية دائماً بعدم تحديد موقفه من حزب العمال الكردستاني، وأنّه الشريك السابع من وراء الستار للطاولة السداسية المعارضة، واعتُبر أنّه وقع في ورطة الحظر بسبب مقاضاته أمام المحكمة الدستورية
لكنّ المنازلة لم تُحسم طبعاً، فهناك أشهر طويلة من القيل والقال والشدّ والجذب، وكلّ طرف يجهّز نفسه لمعركة قد يصعب التمييز فيها بين المحظور والمباح.
سيكون العامل الأوّل المؤثّر في تحديد النتائج هو مدى قدرة حزب الحركة القومية اليميني وحليف حزب العدالة، تحت سقف تحالف الجمهور، على تجاوز عتبة 7 في المئة من مجموع الأصوات المطلوبة والبقاء تحت سقف البرلمان أوّلاً، ومدى قدرته على توفير الدعم الذي يبحث عنه حزب العدالة والتنمية لضمان فوز إردوغان في الانتخابات الرئاسية ثانياً.
العامل الثاني الفاعل هو مدى قدرة تكتّل المعارضة على التنسيق والانفتاح على حزب الشعوب الديمقراطية، واستعداد الأخير للوقوف إلى جانب مرشّح المعارضة لكرسي الرئاسة من دون تفاهمات ومقايضات سياسية مسبقة يتمّ الاتفاق عليها. هذا ويجدر التنويه بأنّ حزب الشعوب ساهم في بناء تكتّل سياسي وحزبي ثالث تحت اسم “العمل والحرية” يضمّ مجموعة من الأحزاب اليسارية الصغيرة في محاولة منه لتوجيه رسالة إلى المعارضة بأنّه قادر على إسقاط مرشّحها ليس حبّاً بالحزب الحاكم، بل كثمن سياسي باهظ تدفعه إذا لم تتفاهم معه على الأخذ بما يقول ويريد.
فرصة المعارضة جدية
ما زالت آخر استطلاعات الرأي تعطي مرشّح المعارضة فرصة الفوز في الانتخابات الرئاسية، وتشير إلى احتمال تقدّم تكتّل المعارضة في الانتخابات البرلمانية. لكنّ كمال كيليشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي كان يردّد أنّ ما دُفع للمرابين في الخارج بسبب القروض والفوائد وصل إلى 150 مليار دولار، يقول له المعارضون اليوم إنّه كان عليه أن يُقنع أطراف الطاولة السداسية المعارضة بدعم ترشيحه لكرسي الرئاسة، قبل أن يلهث هو وراء مجموعة من المرابين لإقناعهم بالقدوم والاستثمار في تركيا.
إقرأ أيضاً: تركيا – إيران: مصيدة المتغيّرات الروسيّة
لم تُحسم الأمور بعد. فالحزب الحاكم يحتاج أيضاً إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ومواجهة أرقام الغلاء والتضخّم والبطالة، وإجراء تعديلات وزارية وحزبية سريعة تُقنع عنصر الشباب بدعمه والوقوف إلى جانبه، ثمّ الإعلان عن كوادره القيادية الجديدة التي ستخوض المعركة الانتخابية بهدف ضمان بقاء الحزب في موقعه، والإصغاء إلى مطلب مراجعة العديد من قواعد النظام الرئاسي الذي اعتُمد في السنوات الأخيرة، والذي ما زال يعاني مشاكل كثيرة في الممارسة والتطبيق.