“فورين أفيرز”: بن سلمان يؤسّس “حركة عدم انحياز”

مدة القراءة 11 د

يبدو أنّها مستمرّة ولا تيأس محاولات الإعلام الأميركي “فكّ لغز” وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، و”أحلامه”، التي يتكشّف اتّساعها يوماً بعد يوم، تارةً نتاج رؤيته البعيدة المدى، وطوراً في مخيّلات من يحاولون تفكيك الشيفرة التي يرسل إشاراتٍ منها في حركته السياسية غير التقليدية من “خارج العلبة” التقليدية لصناعة السياسة في المنطقة.

آخر الاستنتاجات خرجت بها مجلّة “فورين أفيرز” التي عنونت أنّ الأمير الشابّ يرى العالم من خلال التخطيط لإنشاء “دول عدم الانحياز” في عام 2022.

أبرز ما في تقرير كارين إي يونغ، الباحثة الأولى في “مركز سياسة الطاقة العالمية” بجامعة كولومبيا، ما تنقله عن محلّلين يعتبرون أنّ الرياض “لن تكون أبداً شريكاً طيّعاً لأميركا”، ويحمّلون المسؤولية في قرار المملكة العربية السعودية خفض الإنتاج النفطي ضمن منظومة “أوبك بلاس”، خلافاً لطلب الرئيس الأميركي جو بايدن حين زار السعودية، لـ”غطرسة الإدارة”، التي كانت منذ الحملة الانتخابية لبايدن تصوّب على بن سلمان وتُعاديه، لكن ما لبثت أن نظّمت زيارة لبايدن بدت “اضطرارية” لأسباب “نفطيّة”. ويذهب تقرير “فورين أفيرز” إلى أنّ “القرار السعودي هو النتيجة المتوقّعة لمطالبة السعودية بوضع المصالح الأميركية قبل مصالحها”.

المسار الجديد هو حلم إنشاء “حركة عدم انحياز” شبيهة بتلك التي كانت في سبعينيات القرن الماضي، تجهر باستعداد المملكة لاقتصاد سياسي عالمي يختلف عن ذلك الذي تتصوّره إدارة بايدن

حلم عدم الانحياز

المسار الجديد هو حلم إنشاء “حركة عدم انحياز” شبيهة بتلك التي كانت في سبعينيات القرن الماضي، تجهر باستعداد المملكة لاقتصاد سياسي عالمي يختلف عن ذلك الذي تتصوّره إدارة بايدن.

توضح الباحثة أنّ رؤية السعودية “تجعل الرياض وواشنطن، في أسواق النفط ونماذج التنمية الاقتصادية، قوّتين متنافستين أكثر من كونهما شريكين، وهي رؤية تسمح للمملكة أن تلعب دوراً محورياً في الشؤون العالمية. إذ ترى السعودية، ودول الخليج الأخرى، نفسها الآن نماذج للنموّ والتنمية، وتشعر بالحاجة إلى إعادة توجيه تحالفاتها استعداداً لنظام عالمي أقلّ استقراراً، وربّما حتّى لحقبة ما بعد أميركا”.

تعجز واشنطن عن فهم كيف تصوغ السعودية سياستها الاقتصادية والخارجية: “ببساطة، تستعدّ المملكة، تحت قيادة محمد بن سلمان، لاقتصاد سياسي عالمي يختلف بشكل ملحوظ عن ذلك الذي تتصوّره إدارة بايدن. وعلى الرغم من أنّ كلّاً من الديمقراطيين والجمهوريين أصبحوا أقلّ دعماً للشراكة الثنائية بين الولايات المتحدة والسعودية، إلا أنّ السياسة الخارجية للولايات المتحدة قد لا تكون السبب الرئيسي لتصدّع العلاقات. إنّها تتصدّع بسبب التغيّرات في السياستين الداخلية والخارجية للمملكة. لا يتصوّر محمد بن سلمان بلاده لاعباً ثانوياً في نظام دولي متشعّب مشابه للنظام الذي كان قائماً خلال الحرب الباردة. بل هو يرى أنّ النظام الجيوسياسي الناشئ مرن، ويتألّف من مجموعة أجزاء متشابكة، ويعتقد أنّ الرياض لها الحقّ في العمل مع كوكبة متغيّرة من الشركاء لتحريك الأسواق وتشكيل النتائج السياسية، وأنّ المملكة ستحتاج إلى حماية اقتصادها بقوّة في مواجهة تقلّب الطلب العالمي على الطاقة والنفط. وإذا نجحت في ذلك، فلن يتمكّن أحد من منعها من شقّ مسار مستقلّ وريادة نوع مختلف من التنمية الاقتصادية”.

تشبه هذه الرؤية حلم حركة “دول عدم الانحياز في السبعينيات، باستثناء أنّ السمة الموحّدة لها اليوم هي الانتهازية القومية وليس صحوة ما بعد الاستعمار”. وتضيف الكاتبة: “قد يكون محمد بن سلمان على حقّ. يدخل العالم فترة من انعدام الأمن في مجال الطاقة، وسيتزايد الطلب على الهيدروكربونات لمدّة 20 عاماً على الأقلّ، وهو وضع قد يمنح السعودية مزيداً من القوّة. فمن وجهة نظر الرياض، ينتمي المستقبل إلى الأسواق الناشئة. من عام 2011 إلى عام 2021، شكّلت هذه الاقتصادات 67% من نموّ الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهي تمثّل اليوم 49% من إجمالي الناتج المحلي العالمي. على مدى السنوات الأربع المقبلة، من المتوقّع أن تنمو الاقتصادات الناشئة بمعدّل سنوي متوسّط قدره 3.9%، أي بشكلٍ أسرع من تلك الموجودة في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وستكون لها حصّة متزايدة من حجم التجارة العالمية”.

 

ضرورة فهم “رؤية 2030”

بالطبع المملكة العربية السعودية جزء من كتلة هذه الدول ولها تأثير كبير على أسعار الطاقة العالمية. ويجب عدم نسيان “رؤية 2030″، التي تكشف عن التخطيط لمستقبل طموح تتوقّف فيه البلاد عن الاعتماد على الوقود الكربوني وتبني مدناً مستقبلية يمكنها تحمّل جميع مخاطر تغيّر المناخ. وقد منحت هذه الخطة المواطنين السعوديين والمسؤولين الحكوميين على حدّ سواء ثقة جديدة.

هنا لا بدّ من التذكير بأنّ القرار بتشكيل “أوبك بلاس” هو جزء من هذه الرؤية. فهي ليست تحالفاً أيديولوجيّاً ولا معاهدة، بل تحالف دول يرغب بعضها في التعامل مع البعض الآخر بناءً على المصالح المشتركة، ومستعدّة لتحدّي الولايات المتحدة لتحقيق هذه المصالح.

الشراكة الروسية السعودية في “أوبك بلاس” هي جزء من هذه الرؤية السعودية الجديدة في السياسة الخارجية. بالنسبة إلى السعودية، لم يكن الأمر مسألة تجارية فحسب، بل كان أيضاً عملاً من أعمال الحفاظ على الذات. في عام 2010، شكّل إنتاج الولايات المتحدة المزيدَ من النفط الصخري تحدّياً لدور السعودية التقليدي بما هي مصدر مهيمن للطاقة الفائضة في أسواق النفط، وقوّض قدرة الرياض على التحكّم في الإمدادات العالمية. لكن من خلال الشراكة مع روسيا، يمكن للمملكة أن تخلق رافعة أكثر تحكّماً في خفض أسعار النفط أو رفعها، وهو ما يحرم منافسيها الأميركيين من الاستثمار. ويحدّ هذا التحالف من قدرة الشركات الأميركية على جني الأرباح. من منظور تجاري، ترى الرياض أنّ الإجراءات المنسّقة للغرب للسيطرة على واردات الطاقة الروسية والقضاء عليها، وضمناً تحديد سقف أسعار النفط الروسي، تشكّل كارتيلاً للمشترين يهدّد الاقتصاد السعودي أيضاً، ويقوّض بشكل خطير سيطرتها على السوق العالمي.

تستعدّ المملكة، تحت قيادة محمد بن سلمان، لاقتصاد سياسي عالمي يختلف بشكل ملحوظ عن ذلك الذي تتصوّره إدارة بايدن

أوّلاً: مَن يصفع مَن؟

ترى واشنطن أنّ تخفيضات الحكومة السعودية لتدفّق النفط هي صفعة ورفض للشراكة الأميركية السعودية. لكن من وجهة نظر محمد بن سلمان العالمية، فإنّ ما تعتقده الولايات المتحدة ليس بالضرورة هو الحقيقة، ويمكن للرياض العمل مع أيّ طرف عندما يكون ذلك مناسباً لمصالح بلاده، وهذا يعني أنّ السعودية يمكنها أن توازن بين شراكاتها التجارية، ومنها شراكتها مع روسيا، وبين احتياجاتها الأمنيّة التي تعتمد بشكل كبير على الولايات المتحدة.

على الرغم من مطالبة العديد من صانعي السياسة في الولايات المتحدة بأن يُبيّن البيت الأبيض لمحمد بن سلمان أنّ توازنه لا يمكن أن ينجح، من خلال التهديد بوقف أو خفض مبيعات الأسلحة الأميركية، لا يرى محمد بن سلمان أنّ هذا التهديد مثير للقلق بشكلٍ جدّيّ. فصناعة الدفاع مؤثّرة في الكونغرس الأميركي، ومن المرجّح أن تضغط بقوّة لمنع أيّ توقّف عن التصنيع للسعوديين. لكنّ الخليج يعيد ضبط علاقته الأمنيّة مع واشنطن. بالنسبة إلى دول الخليج لم تعد الولايات المتحدة الشريك الأمنيّ الذي كانت عليه من قبل. وقد أوضح الرئيس الأميركي باراك أوباما ذلك عندما قال إنّ السعودية يجب أن “تتشارك الجوار” مع إيران. وكذلك الرئيس دونالد ترامب برفضه الردّ على هجمات 2019 على البنية التحتية النفطية السعودية. وليس خفض بايدن لمستوى الشراكة سوى الخطوة الأحدث فقط في اتجاه أوسع لسياسة الولايات المتحدة الخارجية.

 

البديل الأوروبيّ والروسيّ

من جهتها تحاول السعودية تسريع التحوّل الاقتصادي الذي يربط اقتصادها بشكل أوثق بالأسواق الرئيسية، وهو جهد حقّق بعض النجاح. فقد اتّهمت واشنطن دول الخليج بأنّها ودودة جدّاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكنّ سلوكها هذا لم يمنع الحكومات الأوروبية من الاندفاع إلى أسواق الطاقة في المنطقة، ومن بينها أسواق السعودية.

منذ بدء الغزو الروسي، وقّعت الدول الأوروبية المتعطّشة للطاقة اتفاقيات تعاون طويلة الأمد في مجال الغاز الطبيعي المسال والهيدروجين والطاقة مع الرياض وحكومات دول الخليج الأخرى. وافقت الحكومات الأوروبية أيضاً على تصدير أسلحة جديدة للسعوديين. حتّى ألمانيا، التي حظرت مبيعات الأسلحة للسعودية في 2018، تحتضن المملكة وتبيعها معدّات دفاعية.

على الرغم من كلّ الاتّهامات المتبادلة، قد تكون الرياض على حقّ: النظام الدولي مرن بما فيه الكفاية، والمملكة أساسيّة بما يكفي بحيث لا يتعيّن عليها اختيار جانب واحد. سياسة النفط السعودية مرتبطة بالحسابات الوطنية. يحبّ محمد بن سلمان تحديد الأهداف ثمّ تجاوزها، لكنّ الهدف الأعلى في النهاية هو تسليط الضوء على قوّة محمد بن سلمان: كان يريد أن يظهر لشعبه أنّه على الرغم من الضغط الخارجي للحفاظ على مستوى الإنتاج مرتفعاً، ها هو قد خفّض الإنتاج إلى مستويات أقلّ من تلك المتوقّعة.

تحاول السعودية تسريع التحوّل الاقتصادي الذي يربط اقتصادها بشكل أوثق بالأسواق الرئيسية، وهو جهد حقّق بعض النجاح

خفض الإنتاج لم يؤذِ الأسعار

ترى الباحثة أنّه “لم يكن من مبرّر للضجّة الغربية بشأن الإعلان عن خفض الإنتاج مليونَيْ برميل يومياً. كان إعلان الخفض رمزياً إلى حدّ ما، وتأثيره ضئيلاً على إمدادات النفط للأسواق. إذ يشكّل الحظر الأميركي وسقف أسعار صادرات النفط الروسية تهديداً أكبر بكثير لإمدادات السوق. وقرار “أوبك بلاس” يحمي السعودية لأنّه يوازن انخفاض الإمداد الروسي، ويطمئن المستثمرين إلى أنّ الحكومة السعودية ملتزمة بالحفاظ على أن يبقى النفط مربحاً، أو على الأقلّ لا يتدنّى عن حدّ أدنى للأسعار، ويمنع التقلّبات الشديدة في أسعار النفط إذا انغمس الاقتصاد العالمي في ركود أعمق وأكثر انتشاراً، وهو ما يشجّع الشركات على زيادة الإنفاق على قطاع البترول”.

كانت السياسة المالية السعودية حذرة للسبب نفسه. من المرجّح أن يستند تقرير ما قبل تقديم ميزانية البلاد لعام 2023 إلى أسعار نفط تراوح بين 76 دولاراً إلى 78 دولاراً للبرميل، بمتوسّط ??إنتاج نفطي يبلغ حوالي 10.6 ملايين برميل يومياً. لا يمثّل هذا السعر سوى زيادة طفيفة مقارنة بعام 2022، عندما تمّ تسعير النفط بشكل متحفّظ عند مستوى يقارب 70 دولاراً للبرميل. ولم تُتَرجم الأرباح المفاجئة التي حقّقتها السعودية هذا العام إلى فورة إنفاق، على الأقلّ حتّى الآن.

تبرّر أسبابٌ عدّة استعدادَ السعودية لتداعيات ما قد يؤدّي إليه إمّا انهيار الطلب أو الحاجة غير المتوقّعة إلى إمدادات نفطية جديدة: “استمرار الحرب في أوكرانيا واستهداف روسيا لبنية الطاقة التحتية والبنية المدنية، وتدنّي الاحتياطي النفطي في العالم، وازدياد الضغط على إمدادات المنتجات البترولية المكرّرة مع زيادة العقوبات على روسيا، إلى جانب السياسات الأميركية قيد الدراسة في البيت الأبيض لحظر تصدير النفط الأميركي وتشريعات الكونغرس (تسمّى NOPEC “نوبك”) التي تسمح لوزارة العدل الأميركية بمقاضاة المتلاعبين بالأسعار خارج أميركا، وما ستؤدّي إليه من تأثير مخيف ورادع على أيّ استثمار جديد في النفط والغاز، ومن زيادة في تعطيل عمليات تكرير النفط وتسليم المنتجات، وبالطبع لا ننسى زيادة الصين، أهم سوق تصدير للسعودية، من وارداتها من النفط الروسي، وهو ما يهدّد حصّة الرياض في السوق”.

إقرأ أيضاً: المعاني العميقة في تعيين محمّد بن سلمان رئيساً للحكومة السعوديّة؟

كلّ هذه المؤشّرات مقلقة للسعوديين، بحسب الباحثة في “فورين أفيرز”، وتهدّد عائدات النفط وشرعية الرياض كقوّة استقرار في سوق النفط العالمية. وبالنسبة إلى السعودية فإنّ سيطرة أقلّ على سوق النفط تعني تراجع في القوّة بشكل عامّ لأنّ النفط هو أداة رئيسية تستخدمها الدولة للتأثير على الشؤون الدولية وجذب الاهتمام العالمي. لذلك أصبح الردّ على هذه التهديدات لحظة حاسمة للقيادة الشابّة والنخبة التكنوقراطية في المملكة. من خلال العمل مع روسيا وإلغاء أولويّة الولايات المتحدة، هم يأملون حماية سلطة بلادهم على أسعار النفط ومعها خططهم ورؤيتهم للمستقبل. ومن غير الواضح هل تنجح هذه النخب، لكن من الواضح أنّ بلادهم والولايات المتحدة يذهب كلّ منهما في اتجاه اقتصادي عالمي مختلف. هناك من يرى أنّ الأسواق الناشئة تلعب دوراً أكثر أهميّة في السياسة الدولية والتجارة، فيما يرى آخرون أنّ الدول تتحوّل إلى الداخل وتركّز على استقلالها الوطني في مجال الطاقة، مع تأكيدها الالتزام القائم على القيم عند التفاعل مع النظام الدولي.

*كارين إي يونغ: باحثة أولى في مركز سياسة الطاقة العالمية بجامعة كولومبيا.

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

 

مواضيع ذات صلة

فريدريك هوف: خطوات ترسم مستقبل سوريا

حّدد الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى سوريا السفير فريدريك هوف عدّة خطوات تستطيع تركيا، بمساعدة واشنطن، إقناع رئيس هيئة تحرير الشام، أبي محمد الجولاني، باتّخاذها…

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…