قبل أسابيع من بدء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حربه على أوكرانيا، وانطلاق عمليّات الجيش الروسي بتاريخ 24 شباط، عمد الرئيس الأميركي جو بايدن مسبقاً إلى إطلاق التحذيرات من نيّة بوتين مهاجمة أوكرانيا، وأخذ يضرب المواعيد الزمنية لبدء الهجوم.
حلفاء روسيا
منذ ذاك الحين سعى بايدن إلى عزل روسيا وتأليب الرأي العامّ الدولي ضدّها، وتأليف حشد أوروبي ودولي للتصدّي للخطر الروسي بعد تجاوز موسكو حدود دولة مستقلّة واحتلال أراضيها وضمّها إلى الاتحاد الروسي. وأكمل مساعيه بفرض عقوبات على موسكو، هي الأوسع والأقسى تاريخياً، وتمادت حتى وصلت إلى نحو 15 ألف عقوبة. وألزم الاتحاد الأوروبي بمجاراته في سياسته هذه على الرغم من التداعيات الملموسة المنعكسة سلباً على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لدول أوروبا قاطبة.
الإشكالية ليست تقنيّة أو متعلّقة بجدوى المسيّرات الإيرانية، بل بالدور العسكري الذي تلعبه إيران على الساحة الدولية بعدما مدّت إثيوبيا وفنزويلا بالدرونز وبنت معملاً لتصنيعها في كازاخستان، مساهمةً في تهديد السلم الدوليّ
من المسلّم به أنّ ما فعلته روسيا منذ عام 2014 باحتلالها شبه جزيرة القرم وأراضي في لوغانسك ودونيتسك، وتنكّرها لاتفاق مينسك الذي نظّم الإشكاليّات الحدودية والإثنية بين موسكو وكييف، مخالف للقانون الدولي ويهدّد السلم والأمن الدوليَّين. ومن المسلّم به أيضاً أنّ من الضروريّ الاستمرار بمواجهة بوتين في مغامرته الاستراتيجية، حيث إنّ الثمن المدفوع أوروبياً اليوم بسبب التصدّي للرئيس الروسي قد يكون أضعافاً إذا ما فاز في الحرب وقرّر الانتقال في توسّعه إلى دول أخرى. وهذا ما قد ينذر بحرب عالمية ثالثة ستكون تبعاتها أخطر من أيّ وقت مضى على العالم. ولا ضير من تجميع أكبر حشد ممكن من الدول لمواجهة العدوانية الروسية غير المبرّرة التي لم تؤيّدها سوى كوريا الشمالية وسوريا وبيلاروسيا وإيران. فالوقاية من خطر حرب عالمية ثالثة أفضل من نشوب تلك الحرب طبعاً.
لكنّ نفير الإدارة الأميركية “الصحيح” من أجل نصرة أوكرانيا يقابله “تخاذل” من الإدارة ذاتها تجاه الدول التي تؤيّد روسيا في عدوانها. فهذه الدول لا تكتفي بالتصويت لصالحها في الأمم المتحدة والوقوف إلى جانبها إعلاميّاً، متخطّية كلّ المعايير، بل وصلت إلى مدّ روسيا بمسيّرات وصواريخ أرض – أرض.
الدرونز الإيراني
يشهد العالم بإعلامه وأجهزته ومؤسّساته ومنظّماته على أوّل “كثافة هائلة” في استخدام الدرونز في حرب تُستعمل فيها مختلف أنواع الأسلحة. شكّلت المسيّرات الإيرانية من نوع “شاهد” و”هاجر” و”أبابيل” نقطة انتقال طهران من مؤيّدة للحرب لفظاً إلى مساهمة فعليّة فيها. فإمداد إيران روسيا بحوالي ألفَيْ مسيّرة تدمّر البنى التحتية وتقتل المدنيين هو “جريمة حرب” موصوفة، ولا سيّما في ظلّ العقوبات المفروضة على تصدير واستيراد الأسلحة من وإلى روسيا وإيران على حدّ سواء. ولا يخفّف من وطأة هذه الجرائم ضدّ الإنسانية تساقُط المسيّرات الإيرانية بالمئات في شوارع أوكرانيا لضعف تكنولوجيّاتها، ولأنّها تُستعمل للمرّة الأولى في حرب حقيقية تواجه فيها مضادّات أرضية فعّالة تنال منها وتُظهر عدم جدواها الاستراتيجية.
غير أنّ الإشكالية ليست تقنيّة أو متعلّقة بجدوى المسيّرات الإيرانية، بل بالدور العسكري الذي تلعبه إيران على الساحة الدولية بعدما مدّت إثيوبيا وفنزويلا بالدرونز وبنت معملاً لتصنيعها في كازاخستان، مساهمةً في تهديد السلم الدوليّ.
في موازاة ذلك، يراقب العالم دخول الانتفاضة الشعبية في إيران شهرها الثاني وشمولها أغلب فئات المجتمعات والقوميات الإيرانية تحت لواء نسائي لتأكيد سلميّتها وعدم عسكرتها. نجد بالمقابل “تخاذلاً” من الإدارة الأميركية في تأييدها وتقديم الدعم اللازم لها، ونجد أيضاً صمتاً أميركياً مطبقاً عن دور حكم الملالي في تصنيع المسيّرات وتصديرها، حيناً لقصف مصافي وإمدادات النفط، وحيناً آخر لتهديد السفن والملاحة البحرية والمضائق وحرّية النقل البحري.
تتجاهل الإدارة الأميركية انتفاضة الشعب الإيراني، فلا تتحدّث عن حجم التغيير الذي يسعى إليه هذا الشعب المطالِب بإنهاء نظام الملالي. فالانتفاضة الراهنة تضمّ أطياف الشعب الإيراني الاجتماعية والإثنية والدينية التي تعاني التهميش والقهر والفقر
أميركا وانتفاضة إيران
تتجاهل الإدارة الأميركية انتفاضة الشعب الإيراني، فلا تتحدّث عن حجم التغيير الذي يسعى إليه هذا الشعب المطالِب بإنهاء نظام الملالي. فالانتفاضة الراهنة تضمّ أطياف الشعب الإيراني الاجتماعية والإثنية والدينية التي تعاني التهميش والقهر والفقر.
بالمقابل يصرّح أحد أقطاب اللوبي الإيراني داخل الحزب الديمقراطي وضمن الإدارة روبرت مالي أنّ “الإدارة الأميركية لا تعتمد سياسة تغيير النظام الإيراني”. ويكمل وزير الخارجية أنطوني بلينكن أنّ “مصير النظام في طهران هو مسؤولية المواطنين الإيرانيين وحدهم”. والغريب هو الاستمرار ببروباغاندا “الدعم” المتمثّلة بعقوبات “غير ناجعة” تفرضها واشنطن على “شرطة الأخلاق” الإيرانية التي لا تحتاج إلى موارد ماليّة أميركية أو تكنولوجيا متطوّرة لقتل النساء والأطفال والشباب في حملتها القمعية للانتفاضة.
من واجب جو بايدن الإقرار والاعتراف بثورة الإيرانيين، ولا ينفعه بعد انقضاء ولايته الندم كما فعل باراك أوباما أخيراً حين صرّح “نادماً” على طريقة تعامله مع الثورة الإيرانية الخضراء في 2009. وعلى البيت الأبيض البدء بمناقشة مسألة تغيير النظام التي هي الطريق الأوحد والأقصر لمنع تصنيع القنبلة النووية وامتلاك السلاح الانشطاري. فبدلاً من الغرق في التفاوض مع نظام الملالي المعرقِل لأيّ اتفاق، يجب على واشنطن تأطير حشد دولي شبيه بذلك الذي أنشأته من أجل أوكرانيا لدعم الشعب الإيراني “سلميّاً”. وهذا ما يطلبه هذا الشعب من واشنطن والعالم. فمطالبات الشعب الإيراني بدعم “سلميّ” تدحض أجوبة الإدارة الأميركية وحججها المتخاذلة التي تظهر من خلال قولها جزافاً: “هل تريدون أن نرسل قوّاتنا إلى إيران وندخل حرباً جديدة؟ لن نفعل ذلك”.
لا يريد الشعب الإيراني من واشنطن حرباً برّية وتدخّلاً عسكرياً، بل يريد منها تشكيل مجموعات ضغط في العالم للوصول إلى ديمقراطية حقيقية غير نووية في إيران، ودعم التغيير من خلال الاعتراف بهذه الثورة الشعبية التي ستقوى لوحدها على إيجاد قيادتها الموحّدة، ومساندة القوى الديمقراطية في الداخل والخارج.
إقرأ أيضاً: الصين تستفيد من ضعف روسيا.. وتستعيد حكم الفرد
محور الشر
إذا مضت إدارة بايدن قدماً في المفاوضات مع النظام الإيراني فستكون قراءتها لنظام الملالي مختلّة، وكذلك دموعها المستقبلية. فإيران تصدّر المسيّرات والصواريخ والأسلحة، وتشكّل مع روسيا وكوريا الشمالية والصين ما يسمّى في واشنطن “محور الشرّ”. التوقيت مناسب جدّاً لمراجعة كلّ من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مقاربتهما الضرورية لطرق التعامل مع إيران. فالصور الآتية من أوكرانيا عن المسيّرات الإيرانية تعبّر عن الثمن والكلفة الباهظين إذا امتلكت طهران سلاحاً نووياً. فليشكَّل فريق عمل دوليّ بخصوص إيران على غرار فريق العمل الحالي بشأن روسيا. وعلى واشنطن أن تخرج من نقاشها الضيّق المملّ المحصور بمن يدافع عن الاتفاق النووي مع إيران ومن يعارضه، وأن تتعمّق في الأعمال التخريبية الخبيثة المزعزعة التي يتولّاها النظام الإيراني على الصعيدين الإقليمي والدولي.
كفى هزل وكفى معايير مزدوجة بين حشد ونفير في أوكرانيا بوجه روسيا ومحاباة وتخاذل مع إيران الداعمة لنظام موسكو سياسياً وعسكرياً.
*كاتب لبناني مقيم في دبي