فيما يدخل لبنان الجغرافيا السياسية للمرة الأولى منذ العام 1990 وبفضل اتفاق الطائف، يُثابر الرئيس ميشال عون على تبديد وإضعاف المضمون السياسي لمعنى اتفاق الترسيم البحري مع إسرائيل. يقول، ويريدنا أن نصدّق، إنّه لا تبعات سياسية له. في الوقائع لا يوجد ما يسند ادّعاءاته غير عدم الجرأة على إعلان أنّ الاتفاق هذا أدخل لبنان في شراكة مع إسرائيل. الشراكة هذه ليست مقصورة على مضمون اقتصادي وحسب. السياسة تنبثق منها إلى ما هو أبعد من حجم العائدات إذا وُجدت. وليس أدقّ من تشبيه الياس بوصعب، ممثّل لبنان في اتفاق الترسيم، توقيع “الناقورة” بأنّه “اتفاق أبراهام” اللبناني، وسمّاه “اتفاق هوكستين”.
آراء عون يدحضها صدور تصريحين عن رئيس الولايات المتحدة جو بايدن، وصاحبتها ثلاثة تصاريح للخارجية الأميركية. كلّها تحدّثت عن الجدوى السياسية والأفق الذي صار ممكناً للبنان ارتياده. “حزب الله” يُقرأ منفصلاً في أدواره الجيوبوليتيكية. صار ممنوعاً عليه وعلى إسرائيل ارتكاب الأخطاء العسكرية من دون نتائج ترتدّ على الاثنين، وبالتالي على كل دول حوض المتوسط. الاتفاق يعيد إلى الأذهان ما تأخّرنا عنه ردحاً من الزمن: الشرق الأوسط الجديد الذي تحدّث عنه بايدن بالتوازي مع مجريات الاتفاق اللبناني ـ الإسرائيلي أمس، إذ قال: “خطوة تاريخية وسيفتح الطريق لشرق أوسط مستقرّ ومزدهر”. الاستقرار والازدهار ينهضان على “السلام” لا على كليشيهات الحروب والمجتمعات المُتعسكرة.
قبل هذا وذاك صار البلد “رفيق درب” السياسة الأميركية ورؤيتها للمنطقة وأدوارها. سقطت نظرية التوجّه إلى الشرق وعاد لبنان إلى حيث كان قبل اتفاق القاهرة عام 1969. وما لا يمكن توريته أو إخفاؤه هو أنّ لبنان وإسرائيل صارا شريكين فعليّين في إنتاج الطاقة وتوزيعها وبيعها. ليس فقط بسبب من التداخل في حقل قانا. بل أيضاً لأنّ الأرباح المأمولة لن تكون، وسيكون غاز لبنان خارج لائحة الأسعار التنافسية ما لم يدخل صراحةً أو مداورةً في “منتدى غاز شرق المتوسط” الذي يضمّ مصر والأردن وإسرائيل وإيطاليا وقبرص واليونان.
صار البلد “رفيق درب” السياسة الأميركية ورؤيتها للمنطقة وأدوارها. سقطت نظرية التوجّه إلى الشرق وعاد لبنان إلى حيث كان قبل اتفاق القاهرة عام 1969
الاتفاق يشكّل مدخلاً لتأمين الاستقرار بجنوب لبنان في المرحلة المقبلة، وذلك لتأمين ظروف عمل شركات الغاز والنفط. وهو استقرار جمعيّ مطلوب من كلّ دول المنطقة التي نشدته وذهبت إليه طوعاً.
لبنان في “منظومة الغاز”
الاتفاق يُدخل لبنان ضمن مشروع الغاز والنفط الإقليمي. سيصبح جزءاً من معادلات الاستخراج والتصدير والشبكات الاقتصادية. هذا على وجه الدقّة سيربط لبنان بهذه المصالح. وإذا لم يكن تطبيعاً مباشراً مع الكيان الصهيوني، فله حتماً تداعيات هي ولادة لتسويات سياسية داخلية قد تُحدث تعديلات في النظام السياسي، وجرى عنها كلامٌ كثير.
أوّل الرابحين هو حزب الله الذي يُقدّم على خفرٍ صورة “الضامن” لاستقرار المنطقة. فالحزب لم يعد رصيده سلبياً بعدما قلب معادلات سادت المنطقة منذ قيام إسرائيل على أنقاض فلسطين. على الأرجح قدّم صورة مغايرة للعالم عن قوّته المسلّحة. وأنّى كان الهذر السياسي للممانعين، فالاتفاق يشير إلى معنى الإمساك بأعنّة لبنان ماضياً وحاضراً ومستقبلاً: من بئر العبد حتى طهران.
أصبح للبنان دور ووظيفة بعد الترسيم البحري ودخوله عالم الطاقة. ما كان له اندثر. المرفأ ما عاد ممراً للعالم. كلّ قدراته ذوت. أيضاً كلّ ادّعاءاته عن المصارف والجامعات والمستشفيات والفنادق ما عاد لها من معنى. ادّعاء الحداثة هوى منذ صارت تُعرف إسرائيل بأنّها فاليه سيليكون المنطقة. وحده الاتفاق ممكن أن يكون بطاقة تعريف جديدة للبلد.
مع توقيع الاتفاق يُغادر لبنان المنطقة البائسة من الصراع العربي ـ الإسرائيلي التي وقّع عليها عام 1967، ولم يُفلح بعدها في النجاة. الأسوأ أنّ البلد لم يستفِد من أرباح حرب عام 1973. آنذاك أبقاه الرئيس السوري حافظ الأسد ساحةً خلفيّةً للصراع لتصبح لاحقاً جبهة واحدة. أمعن لبنان في استسهال الصراع فكان أن انفجر على ذاته وغاص في حروبه التي صارت عازلاً عن العالم وشرعيّة المجتمع الدولي. مقتلة بلاد الأرز تُرجمَت مرّتين: مرّة في اتفاق كامب ديفيد، والأخرى في سقوط بيروت تحت الاحتلال الإسرائيلي عام 1982.
الاتفاق يُدخل لبنان ضمن مشروع الغاز والنفط الإقليمي. سيصبح جزءاً من معادلات الاستخراج والتصدير والشبكات الاقتصادية
أن يربح حزب الله فهذا طبيعي. وهذا نصر سببه الرداءة والتعثّر السياسيّان في مجابهته مديداً، الأمر الذي أمدّه بطول العمر وقصّر بأعمار الآخرين الذين تلكّأوا طويلاً عن “العبور إلى الدولة”، وهو الشعار الذي صمّت به قوى “14 آذار” آذان اللبنانيين.
الغريب اليوم أنّ ثمة في البلد قوى، وقد صارت حليفة الحزب، تعاند معنى وأبعاد الاتفاق مع إسرائيل. هذه القوى هي عينها التي سكتت على تطييف “المقاومة” ومذهبتها وحصريّتها التي خسّرتها طبيعتها “الوطنية” الجامعة. واقع الأمر أنّ مترتّبات الولوج في هذا الأمر تهمل أكلاف الاقتصاد والسياسة. وهذا جنون مُطبق يستثمر الحيوات والأعصاب وينشدُ مواضِيَ أليمة.
الاتفاق فرصة جدّية لتحقيق علاقات جديدة مع الشرعيّتين العربية والدولية حال دونها الحزب. ما عاد إنتاج خطاب مقاوم مُمكناً. صارت النجاةُ احتمالاً راجحاً للّبنانيين إذا رفضوا أن يكونوا أضاحي التسويات التي يتردّد على نطاق واسع أنّها أُجريت بين إيران وإسرائيل. الأولى هي مَن أرسلت مسيّرات، لا حزبها.
إقرأ أيضاً: أميركا انتصرت.. وهوكستين “يحمل انتصاره في يده”
لبنان دخل شراكة جديدة، كانت مُتيسّرة له في الأعوام 1990 و1993 و1996 و2000. لكنّ كل هذه المحطات الحربية مع إسرائيل، ومعها التحرير عام 2000، كانت تظهر أنّ لبنان بلدُ أعدّ لوظائف إقليمية مختلفة عن سبيل ازدهاره واستقراره. التعقيد في هذه المحطات كان مردّه إلى أنّ البلد محكوم من وصاية سورية مع أرجحية للحزب. الآن صار محكوماً من إيران وحزبها وحدهما، وربّما ارتأت إيران أنّه آن أوان نزوله عن مئذنة الحروب، وانضمامه إلى قوافل النفط والغاز.