ميشال عون أتى من الفراغ. وها هو يسلّم الفراغ. للمرّة الرابعة تدخل البلاد فراغاً رئاسيّاً سيكون كارثيّاً أكثر من أيّ مرّة بفعل الانهيار الحاصل في البلاد، وسيضع مصير لبنان ورئاسة الموارنة ودورهم وحضورهم على حلبة صراع الأمم.
ناضل الموارنة قروناً ليثبّتوا حضورهم السياسيّ والاقتصادي والاجتماعيّ في لبنان. بدأوه عمّالاً ومزارعين في الإمارة المعنيّة. ثمّ أصبحوا مستشارين في ديوان الأمير. في القرن السابع عشر بدأوا النزوح من جبل لبنان الشمالي نحو الشوف وعاليه. هناك أصبحوا شركاء الأمراء الدروز، أوّلاً في الأرض ثمّ في الحكم.
كان للتدخّلات الأوروبيّة في السلطنة العثمانيّة دورها في تطوّر دور الموارنة وانفتاحهم على الغرب. فرنسا منحتهم الحماية، والفاتيكان فتح لهم الباب واسعاً لولوج “عصر الأنوار” في أوروبا. أسّس لهم المدرسة المارونيّة (1584) في روما، ثمّ أتت الإرساليّات وشيّدت المدارس في المدن والقرى.
ميل شمعون عمل على تفعيل دور لبنان السياحي والماليّ وطوّر علاقات لبنان الإقليميّة والدوليّة. فؤاد شهاب بَلوَر رؤية متكاملة لبناء الدولة. بعد ذلك راح الرؤساء الموارنة يتخبّطون في سياساتهم
في كلّ هذا المسار التاريخيّ، كان للبطريركيّة المارونيّة الدور الكبير في قيادة الموارنة والحفاظ على وحدتهم وبلورة رؤية لمستقبلهم. برزت قمّة هذا المسار في تأسيس دولة لبنان الكبير. وكلّنا يعرف الدور الذي لعبه البطريرك الياس الحويّك. فهو التقط اللحظة الجيوسياسية، وحمل مشروعاً مِقداماً إلى مؤتمر فرساي. “أراد البطريرك الحويّك لبنان الكبير ليحافظ عليه أبناؤه مثل الكبار”، يردّد دائماً المطران سمير مظلوم.
فماذا فعل هؤلاء؟
نهضوا بلبنان لفترة، لكنّ سياساتهم ساهمت في تراجع دور الطائفة. ليست المنافسة على الرئاسة هي السبب، كما يختصر البعض. فالصراع على السلطة أمر طبيعي في نظام ديمقراطي. إنّما المشكلة تُختصر بثلاث نقاط استراتيجيّة:
1- محاولة تغييب المرجعيّة المارونيّة:
كلّ جماعة مهدّدة، دينيّة كانت أو مذهبيّة أو عرقيّة، وإذا لم تلتزم بمرجعيّتها، فهي بالتأكيد ستخسر وحدتها التي هي شرط أساسيّ لاستمرار دورها وحضورها. بعد الاستقلال اعتبر الرؤساء الموارنة أنّ بمقدورهم أن يكونوا المرجعيّة للطائفة، لكنّهم تصرّفوا انطلاقاً من مصالحهم، وفي مقدَّمها البقاء في السلطة، فانعكس ذلك سلباً على مصالح الطائفة، والبلاد أيضاً. لم يتنبّهوا، هم والزعامات المارونيّة الأخرى، إلى أهميّة بكركي بصفتها مرجعيّة للطائفة والبلد… إلا وقت الأزمات وعند شعورهم بالعجز عن المواجهة. كانوا يلجأون إليها، لكن غالباً بعد فوات الأوان. عند شعور بكركي بخطر ما يُحدق بالطائفة والبلاد، كان البطريرك الماروني يأخذ المبادرة ويدعو القادة الموارنة إلى الاجتماع والتشاور. أحياناً لم يلبّوا الدعوة. وأحياناً كثيرة نقضوا ما تعهّدوا به أمام سيّدها. والأمثلة كثيرة في العقود الأخيرة ولا مجال لذكرها.
2- غياب الرؤية والمشروع:
في سنوات الاستقلال الأولى كان لبعض الرؤساء شيء من هذه الرؤية. كميل شمعون عمل على تفعيل دور لبنان السياحي والماليّ وطوّر علاقات لبنان الإقليميّة والدوليّة. فؤاد شهاب بَلوَر رؤية متكاملة لبناء الدولة. بعد ذلك راح الرؤساء الموارنة يتخبّطون في سياساتهم.
صراعات المنطقة، وأبرزها الصراع العربي – الإسرائيلي، والمشاريع الوحدويّة مع العرب، وانحياز الشارع الإسلامي إليها، انعكست مباشرة على الواقع اللبنانيّ، إضافة إلى أنّ الزعامات الإسلاميّة عطّلت العديد من السياسات للضغط من أجل تحقيق الإصلاحات الدستوريّة. مقابل كلّ هذا لم يعمل الموارنة على بلورة خطّة للتعامل مع هذه التطوّرات، فراحوا يتعاطون مع الأحداث بردّة الفعل. ثمّ داهمتهم الحرب. ضاعوا في بداياتها بين الخطر الفلسطينيّ الداخليّ على الدولة وبين المشروع البعثي – الأسدي الخطِر على الكيان، فخسروا عمقهم الشمالي. وفي بدايات عهد أمين الجميّل ساروا بالمشروع الأميركيّ ثمّ تراجعوا، فخسروا عمقهم في جبل لبنان الجنوبي. دُعوا إلى الطائف لإنهاء الحرب، فذهبوا إليه منقسمين. رفضوا الاتّفاق الأميركي – السوري على رئاسة مخايل الضاهر، متناسين أنّ الرئيس الماروني يُصنع في الخارج، فكانت الفوضى التي خلّفتها حروب ميشال عون العبثية وسياساته الرعناء طمعاً بالرئاسة، والتي فتحت الباب واسعاً لدخول قوات حافظ الأسد قصر الرئاسة (المارونيّة) في بعبدا ومقرّ قيادة الجيش (المارونيّة) في وزارة الدفاع. فُرضت عليهم وصاية سورية بضوء أخضر إقليميّ ودوليّ فلم يُحسنوا التعامل معها، فاحتكر الأسد (الأب والابن) اختيار الرئيس المارونيّ.
من خلف جدران بكركي أدرك البطريرك صفير ضَياع أبنائه. أقام مجمعاً بطريركياً لدراسة شؤون الطائفة في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والهجرة والتعليم، وأسّس مركزاً للتوثيق والأبحاث لمتابعة البحث، وشكّل لجاناً سياسيّة واقتصاديّة وقانونيّة وتربويّة، كانت مهمّتها متابعة التطوّرات وبلورة رؤية مستقبليّة، كلٌّ في اختصاصها، وساعدت البطريرك الماروني في إصدار مذكّرات وبيانات ودراسات تحذّر من الخطر المحدق بالبلاد وتضع تصوّراً للحلّ. سألتُ مرّة مرجعيّة سياسيّة مارونيّة عما إذا كان قد اطّلع على شيء منها، فهزّ برأسه غير مبالٍ وكأنّه العليم بكلّ الأمور.
من خلف جدران بكركي أدرك البطريرك صفير ضَياع أبنائه. أقام مجمعاً بطريركياً لدراسة شؤون الطائفة في مجال السياسة والاقتصاد والاجتماع والهجرة والتعليم، وأسّس مركزاً للتوثيق والأبحاث لمتابعة البحث، وشكّل لجاناً سياسيّة واقتصاديّة وقانونيّة وتربويّة
3- غياب “الراعي” الدوليّ:
بعد الاستقلال تراجع دور “الراعي” الفرنسي عالمياً الذي أوصل الموارنة إلى الحكم، ولم يحلّ الأميركي بديلاً عنه، فأدّى ذلك إلى إضعافهم في الداخل. في المقابل كان للطائفتين الكبريين رعاة إقليميون. إذ شكّلت مصر والسعوديّة مرجعيّة للسنّة، فحصّلوا في الطائف ما طالبوا به من إصلاحات دستوريّة في لقاء عرمون الشهير. وبعد طول انتظار، وجد الشيعة راعياً إقليميّاً كان في البداية سوريا، ثمّ إيران، فأصبح لديهم فائض من القوّة العسكريّة والسياسيّة. وها هم يحكمون البلاد بواسطتها ويسعون إلى تثبيتها في دستور جديد للبلاد بدل الطائف. وقد سهّل لهم ميشال عون المهمّة خلال رئاسته.
يمكن القول باللبناني: “كلّ ما فعله الرؤساء الموارنة من أخطاء كوم، وما فعله ميشال عون كوم”.
إقرأ أيضاً: الفاتيكان: قلَق على لبنان وليس “الرئاسة”
عارض رؤساء توجّهات بكركي، ودخل بعضهم في صراع معها، لكنّ أحداً منهم لم يجرؤ على إهانة بطريرك في كرسيّه كما فعل ميشال عون خلال فترة إقامته الأولى في قصر بعبدا. أدّت سياسات بعضهم إلى هجرة مسيحيّين، لكنّ أحداً لم يدفعهم إلى اليأس الكامل والهروب من لبنان بمئات الآلاف كما فعلت سياسات ميشال عون وحروبه. افتقر الكثير منهم إلى الرؤية والمشروع، لكنّ أحداً منهم لم يعمل على تدمير الدولة كما فعل ميشال عون بتحالفه مع ميليشيا ضدّ الدولة. أدّت سياسات بعضهم إلى إضعاف موقع الرئاسة، لكنّ أحداً لم يجعله رهينة لميليشيا كما فعل عون. أدّت سياسات بعضهم إلى قطيعة مع هذه الدولة أو تلك، لكنّ أحداً منهم لم تؤدِّ سياساته إلى عزل لبنان عربيّاً ودوليّاً كما فعل ميشال عون. حتى سوريا لم تستقبل الوفد الذي شكّله لترسيم الحدود البحريّة مع لبنان.
يوم الأحد يغادر ميشال عون قصر بعبدا، لكنّ “لعنة” وجوده فيه على مرحلتين لن تُمحى من تاريخ الموارنة.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية