ليست المرّة الأولى التي توقّع تل أبيب صفقة تثير ريبة النخب السياسية الإسرائيلية، وتجعلها تبدو “ضعيفة”، تقدّم تنازلات “كبيرة” و”غير مفهومة”.
في مثل هذا الشهر من العام 2011، أبرم رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتانياهو مع حركة حماس، وبشكل مفاجئ إقليميّاً ومحليّاً وبرعاية العرّاب المصري، صفقة ضخمة تمّ بموجبها تحرير أكثر من ألف أسير فلسطيني، ومن بينهم الذين تسمّيهم تل أبيب “الأيدي الملطّخة بالدماء”، مقابل الإفراج عن الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. ونتانياهو الذي كان يتمسّك طوال حياته السياسية بمبدأ عدم التفاوض مع “الإرهابيين” – المبدأ الذي أسّس عليه شهرته السياسية – هو الذي أبرم الصفقة غير المتوازنة مع حركة حماس. ونتانياهو إياه هو اليوم كبير منتقدي صفقة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل.
لا توجد بين الجمهور الإسرائيلي أغلبية كبيرة تؤيّد أو تعارض اترسيم. ربما يكون الدافع الأكبر لتوقيعه هو إرضاء إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي لها مصلحة سياسية عاجلة في التوصّل إلى اتفاق الطاقة
كشف كتاب “سيرة نتانياهو” أنّ “نتانياهو وإيهود باراك تنازعا على الصورة التي سيلتقطانها مع الجندي المحرّر بعد هبوطه في إسرائيل”. وذكر أنّ “الطائرة التي أقلّت شاليط من مصر إلى إسرائيل أطالت مشوارها في الجوّ لأنّ شاليط فقد وعيه. لكنّ المفاوض ديفيد ميدان الذي كان على متن الطائرة أدرك أنّ نتانياهو وباراك لن يتنازلا عن الصورة التاريخية، فأصدر أمراً بإطالة الرحلة الجوّية إلى أن يستيقظ شاليط بدلاً من نقله إلى المستشفى لتلقّي العلاج”.
ألف مقابل واحد
ثمّة من تساءل يومها عن مبادلة أكثر من ألف أسير مقابل أسير واحد: مَن المنتصر؟ هل هي إسرائيل لأنّها انحازت إلى قيمة الإنسان، وقد لاحظنا كيف ظهر شاليط بملابسه العسكرية وهو يؤدّي التحيّة لرئيس أركان الجيش الإسرائيليّ بيني غانتس الذي اتّخذ من هذا المشهد دليلاً على أنّ الدولة العبرية لا تتخلّى عن جنودها ومواطنيها؟ أم “حماس” هي من انتصر لأنّها أجبرت تل أبيب على القبول بهذه المعادلة غير المتوازنة، وأرغمتها على دفع ثمن باهظ بلغ 1,027 أسيراً مقابل جندي واحد؟
في صفقة تبادل الأسرى تلك، برّر نتانياهو توقيعه بالقول إنّه أراد تجنيب شاليط مصير الطيّار الإسرائيلي رون أراد الذي سقطت طائرته داخل لبنان قبل نحو 25 عاماً… واختفى. والآن يقول يائير لابيد إنّ صفقة الترسيم مع لبنان تضمن الأمن والاستقرار والفوائد الماليّة لإسرائيل ولمواطنيها.
في الحالتين يجمع الإسرائيليون على أنّ اتفاق الترسيم مع لبنان هو إنجاز أمنيّ مهمّ. وقد عرض الاتفاق في وسائل الإعلام بوصفه يُنتج ردعاً مستقبليّاً في صيغة “طوّافة مقابل طوّافة”، أو بوصفه الهزيمة الأكثر فائدة لإسرائيل.
ما هي حجج المعترضين؟
ثمة رأي آخر يتقدّم داخل إسرائيل
1- رئيس المعارضة بنيامين نتانياهو اتهم يائير لابيد بالتخاذل أو الخضوع لتهديدات المسيَّرات التي أطلقها حزب الله فوق منصّة غاز كاريش، وقبوله كلّ المطالب اللبنانية.
2- وزير الطاقة السابق يوفال شتاينتس، الذي أجرى مفاوضات مع لبنان حتى سنة 2019، هاجم لابيد قائلاً: “الحلّ الوسط هو عندما نقسّم بالتساوي، وليس عندما يحصل اللبنانيون على كلّ شيء ولا نحصل على أيّ شيء”. وحذّر شتاينتس من أنّ التنازل عن 6 كلم سابقة خطِرة تُظهر إسرائيل أمام دول المنطقة أنّها دولة تستسهل تقديم تنازلات إقليمية، إذا تعرّضت لضغوط كبيرة.
3- الكاتب الإسرائيلي زلمان شوفال تساءل: “لم تمنع محكمة العدل العليا الإسرائيلية اتفاق الغاز مع لبنان: فلماذا تتسرّع حكومة يائير لابيد لإقرار الاتفاق كالسرّاقين في الليل؟ لقد حاولت الحكومة أن تخدع الجمهور من خلال “رفضها الحازم” التعديلات اللبنانية وإعلاناتها عن الاستعداد الأمني في الشمال. لكن لم يشترِ هذه البضاعة أحد، ولا سيّما “حزب الله”.
ترى تل أبيب أنّ اتفاق الترسيم يعزّز ويحصّن أمن إسرائيل وحرّية العمل ضدّ التهديدات من الشمال، ويحافظ على أمن المستوطنات الشمالية وسيطرة البحرية الإسرائيلية على ما يُسمّى “خطّ العوامات”
بحسب الاستطلاعات لا توجد بين الجمهور الإسرائيلي أغلبية كبيرة تؤيّد أو تعارض الترسيم. ربما يكون الدافع الأكبر لتوقيعه هو إرضاء إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، التي لها مصلحة سياسية عاجلة في التوصّل إلى اتفاق الطاقة.
ورأى زلمان شوفان أن السبب الحقيقي لخطوات حكومة لابيد هو التخوّف من اشتعال أمنيّ مع حزب الله. وهذا اعتبار كان يمكنه أن يكون شرعيّاً لو أُبقي في السرّ. لكن ارتعاد الفرائص العلني للحكومة يشكّل دعوة مفتوحة لحزب الله ليهدّد إسرائيل حين يريد وتريد طهران. وهذا يطابق ما كتبه في حينه الشاعر اليهودي العظيم هاينرخ هايني: “الغبيّ وحده يكشف أمام العدوّ نقاط ضعفه”.
لبنان يعترف بإسرائيل
لكن على بعد أيام من انتخابات الكنيست، وصف لابيد الاتفاق بأنه دليل على “اعتراف لبنان بدولة إسرائيل”. قال ذلك في بداية اجتماع الحكومة الإسرائيلية للمصادقة نهائياً على الاتفاق. وادّعى لابيد أنّ “هذا إنجاز سياسي، فليس كلّ يوم تعترف دولة عدوّة بدولة إسرائيل باتفاق خطّي أمام المجتمع الدولي كلّه. وليس كلّ يوم تقف الولايات المتحدة وفرنسا خلفنا وتمنح ضمانات أمنيّة واقتصادية للاتفاق”.
ترى تل أبيب أنّ اتفاق الترسيم يعزّز ويحصّن أمن إسرائيل وحرّية العمل ضدّ التهديدات من الشمال، ويحافظ على أمن المستوطنات الشمالية وسيطرة البحرية الإسرائيلية على ما يُسمّى “خطّ العوامات”.
إقرأ أيضاً: الانتخابات الاسرائيلية: هل تكون العمليات الفدائية الناخب الأكبر؟
من جهته، كشف رئيس المديرية الوطنية للدبلوماسية العامّة في مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، ليئور هايات، كواليس مراسم توقيع اتفاق الترسيم في الناقورة، فقال إنّ المفاوضين الإسرائيليين واللبنانيين جلسوا حول طاولة مربّعة في خيمة بعثة الأمم المتحدة في الناقورة، على جانبين متقابلين من الطاولة المربّعة. ولم تكن هناك مصافحة ولا محادثات بين الوفدين الإسرائيلي واللبناني. وكان ممثّلو الأمم المتحدة والولايات المتحدة في مواجهة بعضهم بعضاً على الجانبين الآخرين. وعند إعلان إتمام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين صفّق الجميع. وأوضح هايات أنّ كلّ طرف قدّم للمفاوض الأميركي آموس هوكستين وثيقة موقّعة من قبل رئيس الوزراء يائير لابيد عن إسرائيل، والرئيس ميشال عون عن لبنان. ثمّ وقّع هوكستين على الوثيقتين وقال: “مبروك، لدينا حدود بحرية بين الطرفين”، وصفّق الحاضرون.
*كاتبة فلسطينية