أسباب التطرّف عديدة، وإذا كان الفقر والجهل أساسيَّين في صناعة الظاهرة، فإنّه يمكن للأثرياء والأكاديميّين أن يسقطوا أيضاً في براثن الغلوّ والإرهاب. فقد كان أسامة بن لادن مهندساً ومليارديراً، وكان أيمن الظواهري طبيباً ثريّاً، وكان أنور العولقي زعيم القاعدة في اليمن والرجل الثالث في التنظيم بعد بن لادن والظواهري حاصلاً على الدكتوراه في التربية، وكان والده وزيراً ورئيساً لجامعة صنعاء. وهناك عدد كبير من قادة جماعة الإخوان في مصر وخارجها من أساتذة الجامعات والأطبّاء والمهندسين والقضاة.
الأمر لا يتعلّق بالتعليم وحده، بل بالثقافة، التعليم مهمّ للغاية في الحرب ضدّ الإرهاب، لكنّ التعليم من دون ثقافة لن يكون كافياً للمواجهة.
تصدُّر الثقافة في اسم “التجمّع الثقافي الإسلامي في موريتانيا” أمر يستحقّ الإشادة. وجهود الشيخيْن صاحب الفضيلة محمد الحافظ (الرئيس) والخليل النحوي تستحقّ التقدير. ففي جحيم الإرهاب يمكن أن يسقط المتعلّم، لكنّ من الصعب أن يسقط المثقّف.
أكبر أسباب التطرّف الديني والإرهاب في إفريقيا هو البطالة. فالذين لا يجدون عملاً ولا باباً للرزق، ولا عائداً في نهاية الشهر، هم مادّة جاهزة لفعل أيّ شيء
ماذا عن موريتانيا؟
تطلّ موريتانيا على المحيط والصحراء. وعلى حدودها تدور حروب عبثيّة دفعت المنطقة إلى حافة الجحيم. قال لي الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني حين التقيته في أبوظبي عام 2020: نحن إحدى دول الساحل والصحراء، لكنّنا لسنا جزءاً من المعارك الدائرة، غير أنّ استمرار تدهور الأوضاع يخلق المزيد من الضغط والتوتّر في المنطقة. ثمّ قال الرئيس محذّراً إنّ هذه المنطقة الجيوسياسية الهشّة يمكنها أن تواصل الانهيار إذا لم تُضبط الأمور.
كان تحذير الرئيس مهمّاً للغاية. فما لم تقف تلك المعارك المفتوحة والمتناثرة لا يمكن توقّع أيّ مستقبل. وحسب العبارة الشهيرة للعلّامة الشيخ عبد الله بن بيه: يجب إعلان الحرب على الحرب لتكون النتيجة سلماً على سلم.
زرتُ موريتانيا هذا الأسبوع بصحبة الدكتور أسامة الأزهري مستشار الرئيس المصري للشؤون الدينية لحضور المؤتمر الدولي الذي أقامه “التجمّع الثقافي الإسلامي” تحت رعاية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني رئيس الجمهورية، وبحضور السيّدة الأولى الدكتورة مريم بنت محمد فاضل ولد الداه.
استطاع “التجمّع الثقافي الإسلامي” برئاسة صاحب الفضيلة الشيخ محمد الحافظ النحوي أن يجمع وفوداً من علماء ومفكّري خمسين دولة، كان معظمهم من القارّة الإفريقية. وقد انعقد المؤتمر الخامس والثلاثون بمشاركة رابطة العالم الإسلامي برئاسة الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى.
درس من غامبيا
كان الموضوع العامّ للمؤتمر الدولي الخامس والثلاثين للسيرة النبويّة ومؤتمر هيئة علماء المسلمين هو “القيم الأخلاقية في السيرة النبوية وأثرها في نشر قيم السلام حول العالم”.
رأستُ الجلسة المحورية الأولى من المؤتمر، وكانت بعنوان “المقاربات التنموية لمعالجة الفكر المتطرّف”. وقد سعدتُ في جلستنا بمشاركة الشيخ عبد الجليل حيدر من جمهورية مالي، والقاضي عمر سِك من جمهورية غامبيا، والدكتور زكريا ربّاني المستشار السابق لرئيس النيجر، والدكتور مصطفى فاتي من موريتانيا، والأستاذ محمد فتي من السنغال.
كان صوت جمهورية غامبيا صوتاً نادراً يتحدّث عن عدم المعاناة من التطرّف، وعدم وصول الغلوّ إلى مستوى الخطر. وفي عرضه تجربة غامبيا قال القاضي عمر سِك: “كان لدينا خطر كبير يتعلّق بأنّ كلّ دارس للعلوم الدينية في الخارج يريد أن يفرض بيئة وتجربة الدولة التي عاد منها.
“ولمّا كان المبعوثون من غامبيا يذهبون للدراسة في دول عدة، كنّا نواجه صراعاً بين مرجعيّات هؤلاء المبعوثين. في غامبيا قمنا في مواجهة ذلك بتأسيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وأنشأنا مخيّمات ومعسكرات لجمع العائدين وإطلاق الحوار والنقاش. قمنا أيضاً بتوحيد المناهج التعليمية. وكانت خطوة توحيد المناهج التي بدأناها قبل 30 عاماً مهمّة للغاية.
“وهكذا أصبح لدينا إطار مؤسّسي منظّم، يشمل وحدة المناهج، وحوارات العائدين، وخضوع الجميع للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية. ومن هنا أصبح هناك طريق واحد للدعاة، لا طُرق شتّى متصارعة أو مرجعيات أجنبية متصادِمة. ومن هنا أيضاً أصبح هناك استقرار أيديولوجي، وأصبحت غامبيا دولة آمنة”.
تحالف الشرّ: البطالة والتطرّف
إنّ أكبر أسباب التطرّف الديني والإرهاب في إفريقيا هو البطالة. فالذين لا يجدون عملاً ولا باباً للرزق، ولا عائداً في نهاية الشهر، هم مادّة جاهزة لفعل أيّ شيء.
لقد أيّد ممثّل جمهورية مالي هذا الطرح، وقال: “إذا أردتم أن تقضوا على التطرّف، فاقضوا على البطالة، فكلاهما وجهان لعملةٍ واحدة. ثمّ إنّ انتشار البطالة والفساد معاً – الفساد في الأعلى حيث يرتع عدد قليل ممّن ينهبون أموال الشعب، والبطالة في الأسفل حيث يتيه ملايين الناس الذين لا يجدون قوت يومهم – يجعل الأزمة أخطر. فهذا المركب يسهّل تفجير الحقد الاجتماعي، وتمزيق أواصر المجتمع”.
كان من بين ما قاله الشيخان محمد الحافظ النحوي والخليل النحوي أنّ تراجع التكافل الاجتماعي، وعدم قيام الأثرياء بواجبهم تجاه المجتمع، يجعلان المال دولةً بين الأغنياء منهم، ويدفع غير القادرين إلى الانفلات والتطرّف. ومن ثمّ فإنّ مقاومة البطالة، ومكافحة الفساد، واستعادة قيم التكافل الاجتماعي أمورٌ أساسية في مواجهة التطرّف.
الاستقرار النسبيّ
حين سألتُ المستشار السابق لرئيس جمهورية النيجر الدكتور زكريا ربّاني عن الأوضاع الأمنيّة في بلاده قال: “لدينا استقرار. وهو بالطبع استقرار نسبيّ. فنحن نقارن أنفسنا بجيراننا في ليبيا ومالي وبوركينافاسو”. لم يعد هناك طموح إلى تحقيق الاستقرار التامّ في تلك المنطقة الخطيرة من العالم، ووسط هذه الظروف. أصبح مجرّد تحقيق الاستقرار النسبيّ أمرٌ شاقّ ونجاح كبير.
إقرأ أيضاً: الترينديّون: تآكل العقل العربيّ
تحدّث المستشار السابق لرئيس النيجر في شأن آخر شديد الأهميّة، فقال: “البطالة هي حتماً آفتنا الكبرى، لدينا أطبّاء ومهندسون عاطلون، فما بالنا بمن يدرس الشريعة وأصول الدين واللغة العربية أو من يدرس التاريخ أو الجغرافيا. إذا لم يتمّ توظيفه خطيباً في مسجد أو مدرّساً في مدرسة، فلا عمل له”. ثمّ أضاف: “يجب أن لا ترتبط دراسة علوم الدين بالوظيفة الدينية، لأنّ الوظائف الدينية ببساطة محدودة للغاية، ويمكن أن يكون الأمر كما كان طوال عقود سابقة: إمام مسجد ونجّار، إمام ومزارع، إمام وتاجر.. وهكذا. إذا درست الشريعة لأتوظف قاضياً شرعيّاً، وكان هناك بالفعل قاضٍ شرعيّ موظّف، فلن تكون لي وظيفة. ببساطة يجب فصل الدراسة الدينية عن الوظائف الدينية، وأن تكون هناك وظائف إنتاجية للدارسين الشرعيّين”.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.