قاومت ليز تراس، لكنّها اكتشفت أن لا فائدة من مقاومتها، كون الإرث الذي تركه بوريس جونسون من نوع غير قابل للحمل. بات مطروحاً مستقبل المملكة المتحدة وما إذا كانت ستبقى موحّدة ودولة من الدول المتقدّمة في العالم.
استقالت ليز تراس بعد 44 يوماً في موقع رئيس الوزراء، كاشفةً مدى عمق الأزمة التي تعاني منها بريطانيا. تدفع المملكة المتحدة، حيث وقف أكثر من نصف الناخبين بقليل مع الخروج من الاتحاد الأوروبي، غالياً ثمن نتائج الاستفتاء الذي أُجري في 2016. ترجمت حكومة بوريس جونسون نتائج الاستفتاء على أرض الواقع في الشهر الأوّل من السنة 2020. صار البريطانيون غرباء في أوروبا، والأوروبيون غرباء في بريطانيا.
مع بدء تطبيق “بريكسيت”، تراجع موقع لندن. نزحت شركات مالية ومصارف عالمية إلى مدن أوروبية أخرى في دول مثل ألمانيا وفرنسا وحتّى سويسرا التي ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي
نفّذ جونسون “بريكسيت”، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مطلع 2020، لكن ليس في المملكة من هو مستعدّ لمواجهة الحقيقة التي اسمها خدعة ذلك الاستفتاء الذي استغلّه في حينه سياسيون شعبويّون، أكثرهم من اليمين المتطرّف، لا يمتلكون أيّ رؤية استراتيجيّة مرتبطة بالواقع البريطاني.
ليست استقالة رئيسة الوزراء البريطانيّة سوى تعبير عن كارثة خلّفها “بريكسيت”. تظهر الآن على الأرض النتائج التي ترتّبت على الاستفتاء في غياب كامل لرجال دولة قادرين على القيادة في بلد كان في الماضي عظيماً. هناك حتّى تفكير، داخل حزب المحافظين، بالعودة إلى بوريس جونسون. في ذلك قمّة الإفلاس. لم يكن “بريكسيت” بالنسبة إلى جونسون سوى وسيلة للوصول إلى موقع رئيس الوزراء حيث لاحقته الفضائح الواحدة تلو الأخرى فاضطرّ إلى الاستقالة.
لا وجود إلى الآن لنقاش جدّي في شأن “بريكسيت”. تهرب بريطانيا من أزمتها ومن تلك الكلمة. يعود ذلك إلى غياب سياسيّين من الحزبين الكبيرين (المحافظين والعمّال) على استعداد لتحمّل مسؤوليّاتهم والاعتراف بأنّ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي كان فضيحة. قد يكون الأهمّ من ذلك كلّه أنّ العنجهية البريطانيّة تحول دون التطرّق إلى كارثة “بريكسيت” وكيفيّة العودة عن قرار اُتُّخذ في استفتاء شعبي لم يكن المواطنون يعرفون ما هي أبعاده.
يغيب الكلام عن “بريكسيت” تفادياً للاعتراف بأنّ ظاهرة الازدهار البريطاني عائدة في معظمها إلى أنّ العلاقة بأوروبا حوّلت لندن إلى أكبر مركز ماليّ عالمي. حصل هذا التطوّر، بعد العام 1979، بفضل المرأة الحديد التي اسمها مارغريت تاتشر وفي ظلّ حسن إدارة للعلاقة البريطانيّة مع الاتحاد الأوروبي بغية الاستفادة منها إلى أبعد حدود.
مع بدء تطبيق “بريكسيت”، تراجع موقع لندن. نزحت شركات مالية ومصارف عالمية إلى مدن أوروبية أخرى في دول مثل ألمانيا وفرنسا وحتّى سويسرا التي ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي.
انتقلت بريطانيا بسبب “بريكسيت” من دولة شبه عظمى إلى دولة تبحث عن المحافظة على وحدتها في ظلّ كيان اسمه المملكة المتحدة يضمّ إنكلترا وويلز واسكتلندا وشمال ايرلندا
مثلما كان بوريس جونسون الطفل المدلّل لعائلته التركيّة الأصل، كانت المملكة المتحدة الابن المدلّل للاتحاد الأوروبي. لم تدخل بريطانيا منطقة العملة الأوروبية الموحّدة (يورو)، ورفضت الانضمام إلى الاتفاق في شأن التأشيرة الموحّدة (شينغن)، ورفضت الرضوخ لاتفاقات أخرى أُقرّت في إطار الاتحاد الأوروبي.
لم تعد مشكلة بريطانيا في إيجاد رئيس جديد للوزراء خلفاً لليز تراس. صار مطروحاً ما العمل بـ”بريكسيت”؟ ليس مَن يريد طرح مثل هذا السؤال في وقت تبحث معظم المؤسسات البريطانيّة، خصوصاً المطاعم والفنادق والمقاهي عن موظفين من ذوي الكفاءة. هؤلاء كانوا يأتون من بلدان الاتحاد الأوروبي، وصاروا فجأة يحتاجون إلى إجازات عمل بعدما كانوا في الماضي يعامَلون معاملة المواطن البريطاني. تحتاج بريطانيا في مواسم زراعيّة معيّنة إلى 70 ألف عامل، لكنّها لم تعد تجد الآن سوى 40 ألفاً من هؤلاء… بسبب “بريكسيت”.
بين حين وآخر يشاهد المقيم في لندن رفوفاً فارغة في هذا الـ”سوبرماركت” أو ذاك. بات استيراد موادّ غذائية وبضائع معيّنة في حاجة إلى إجراءات خاصة. إضافة إلى ذلك، لم يعد هناك عدد كافٍ من سائقي الشاحنات الضخمة التي توصل البضائع إلى المحلّات المطلوب إيصال هذه البضائع إليها.
الأكيد أنّ حرب أوكرانيا وجائحة “كوفيد – 19” زادتا الوضع سوءاً. لكنّ “بريكسيت” يبقى في أساس الأزمة البريطانيّة المركّبة. خرجت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، لكنّها لم تجد بديلاً منه يتلقّفها. بقيت العلاقات التجاريّة مع الولايات المتحدة ودول أخرى على حالها. كلّ ما في الأمر أنّ البريطاني صار من أجل دخول دولة أوروبيّة ينتظر في صفّ طويل مثله مثل أيّ مواطن من العالم الثالث، علماً أنّه لا يحتاج إلى تأشيرة لزيارة هذه الدولة الأوروبيّة أو تلك.
إقرأ أيضاً: لا وقت للترحّم على 17 أيّار… وإنصاف أمين الجميّل
يرفض معظم السياسيين البريطانيين الحضّ على إعادة النظر في “بريكسيت” بحجّة أنّه أُقرّ في استفتاء شعبي، لكنّ مثل هذا الطرح من النوع الذي لا قيمة له نظراً إلى ظروف إجراء الاستفتاء في منتصف العام 2016. يبقى مستقبل المملكة المتحدة أهمّ بكثير من استفتاء دفع في اتجاهه سياسيون انتهازيون لا يتمتّعون بأيّ رؤية استراتيجية. نظّمت حكومة ديفيد كاميرون الاستفتاء. ما لبث كاميرون الذي لم يشرح للمواطن البريطاني ما الذي على المحكّ أن قدّم استقالته وخرج من السياسة. ترك المملكة المتحدة في مهبّ الريح. أدخلها من حيث يدري أو لا يدري في أزمة سياسية تجاوزت الأشخاص. لم يعد معروفاً هل تبقى اسكتلندا، حيث تؤيّد أكثرية المواطنين البقاء في الاتحاد الأوروبي، في المملكة المتحدة أم لا؟
انتقلت بريطانيا بسبب “بريكسيت” من دولة شبه عظمى إلى دولة تبحث عن المحافظة على وحدتها في ظلّ كيان اسمه المملكة المتحدة يضمّ إنكلترا وويلز واسكتلندا وشمال ايرلندا.