تعني مرحلة ما بعد ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل، في المرتبة الأولى، إقفال آخر جبهة عربيّة مع الدولة العبريّة. يبدو ذلك تطوّراً جعل رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد ووزير الدفاع بيني غانتس، وهو رئيس سابق للأركان، لا يتردّدان في وصف الاتفاق في شأن الترسيم بأنّه “تاريخي”.
لهذه الأسباب صعد لحود إلى الرئاسة
كان جنوب لبنان جبهة مصطنعة، بل كان طوال أربعة عقود وأكثر مجرّد صندوق بريد لتبادل الرسائل بين إسرائيل والنظام السوري في مرحلة معيّنة، ثمّ بين إسرائيل و”الجمهوريّة الإسلامية” في إيران. صارت إيران الطرف المهيمن في جنوب لبنان منذ خلف سلاحها السلاح الفلسطيني. من يتذكّر أنّ من بين الأسباب التي أقنعت حافظ الأسد بإيصال إميل لحّود إلى موقع رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة في العام 1998 الشكوى التي رفعها إليه بأنّ رفيق الحريري يعمل مع آخرين من أجل عودة الجيش إلى جنوب لبنان؟
حلّ السلاح الإيراني مكان السلاح الفلسطيني في لبنان على مراحل. بدأ استبدال السلاح غير الشرعي، الذي فرضه اتفاق القاهرة المشؤوم، بسلاح آخر غير شرعي أيضاً صيف 1982 عندما خرج المقاتلون الفلسطينيون من لبنان. حلّ السلاح الإيراني مكان السلاح الفلسطيني بشكل تدريجي، فيما لم تكن إسرائيل مهتمّة في أيّ يوم بعودة الجيش اللبناني إلى جنوب لبنان.
يبدو الترسيم تتويجاً للمسلسل الانقلابي الذي بدأ باغتيال رفيق الحريري في 14 شباط من العام 2005، وصولاً إلى إغلاق جبهة جنوب لبنان
من هنا، لا يمكن النظر إلى اتفاق ترسيم الحدود البحريّة من زاوية مرتبطة بالقانون الدولي والخرائط القديمة والجديدة بمقدار ما أنّ المطلوب النظر إليه من زاوية مختلفة. إنّها زاوية سياسية أوّلاً تطرح مستقبل لبنان ونظامه، بما في ذلك الدستور الذي وُلد من رحم اتفاق الطائف في خريف العام 1989.
الترسيم تتويج لانقلاب بدأ باغتيال الحريري
يبدو الترسيم تتويجاً للمسلسل الانقلابي الذي بدأ باغتيال رفيق الحريري في 14 شباط من العام 2005، وصولاً إلى إغلاق جبهة جنوب لبنان… وإعلان “حزب الله”، بصفة كونه لواء في “الحرس الثوري الإيراني”، توفير الضمانة المطلوبة التي تسمح لإسرائيل باستخراج الغاز من حقل كاريش. يأتي ذلك في ضوء تحوُّل الغاز الإسرائيلي الذي يُعالَج في مصر جزءاً من الأمن الأوروبي. هذا ما يفسّر، إلى حدّ ما، كلّ هذا الاهتمام الأميركي الكبير بترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل.
يصعب النظر إلى اتفاق ترسيم الحدود، الذي يتبيّن كلّ يوم أكثر أنّه بمنزلة رسالة إيرانية إلى أميركا وإسرائيل في الوقت ذاته، خارج الإطار السياسي وخارج الصفقة التي تعمل “الجمهوريّة الإسلاميّة” على الوصول إليها مع “الشيطان الأكبر” الأميركي و”الشيطان الأصغر” الإسرائيلي. أمّا الدور الذي لعبه الثنائي ميشال عون – جبران باسيل، فهو ليس سوى دور توفير الغطاء المسيحي للرسالة الإيرانيّة. يمثّل هذا الدور علّة وجود ميشال عون وصهره في موقع رئيس الجمهوريّة.
غياب الوعي اللبناني
مرّة أخرى، ليس اتفاق ترسيم الحدود البحريّة سوى اتفاق سياسي على خلفيّة إقليميّة ودوليّة، وذلك بغضّ النظر عمّا إذا كان في مصلحة لبنان أو في غير مصلحته. كشف هذا الاتفاق غياب أيّ وعي لبناني لدى من كانوا يسمّون أنفسهم “وطنيّين” في ثمانينيّات القرن الماضي. الدليل على ذلك مسارعة القوى السياسية الساعية إلى استرضاء النظام السوري، في العام 1983، إلى الاعتراض على اتفاق 17 أيّار الذي هو بشهادة الخبراء القانونيين والضبّاط العسكريين اللبنانيين أفضل بكثير من اتفاق ترسيم الحدود البحريّة الأخير.
مؤسف أن ليس بين زعماء هذه القوى السياسيّة من يمتلك، في هذه الأيام، ما يكفي من الجرأة لإنصاف الرئيس أمين الجميّل، الذي حرص في حينه على الاستعانة بأفضل خبير لبناني في مجال القانون الدولي، هو البروفيسور أنطوان فتّال، في مفاوضات لبنانيّة مع إسرائيل. أكثر من ذلك، حظي اتفاق 17 أيّار بموافقة مجلس النواب اللبناني، أي بشبه إجماع وطني إسلامي ومسيحي. أين أصوات النوّاب الموتورين الذين وقفوا ضدّه الآن؟
كان ضمانة للبنان في مرحلة ما بعد الاجتياح الإسرائيلي ورغبة حافظ الأسد، بدعم من الاتحاد السوفييتي (يوري أندروبوف تحديداً)، في نسف أيّ محاولة يبذلها اللبنانيون الشرفاء، وكان بينهم شخص مثل صائب سلام، لوقف استخدام البلد كـ”ساحة” تتصارع فيها القوى الإقليمية والدوليّة.
استخدم النظام السوري أدواته اللبنانيّة وميليشياتها المسلّحة للتخلّص من اتفاق 17 أيّار الذي وصفه حافظ الأسد بـ”اتفاق الإذعان”. الأكيد أنّ أمين الجميّل، الذي كان عليه أن يقاتل على غير جبهة، ارتكب أخطاء كثيرة، لكنّه بقي متمسّكاً بالأساسيّات اللبنانيّة في كلّ وقت، خصوصاً في لقاءاته الـ13 مع حافظ الأسد الذي لم يبحث في يوم من الأيّام إلّا عن أدوات له في لبنان.
إيران رسمت مع إسرائيل والحزب ضمانة
لم تعُد أمام لبنان واللبنانيّين في الوقت الحاضر فرصة للترحّم على 17 أيّار. لم يعُد أمامهم سوى التفكير مليّاً في ما ينتظر البلد في مرحلة ما بعد ترسيم إيران لحدوده البحريّة مع إسرائيل وتحوُّل “حزب الله” إلى ضامن لاتفاق لن يُعرَض على مجلس النواب، وهو مجلس لا تشبه تركيبته سوى القانون الانتخابي العجيب الغريب المعمول به منذ العام 2018.
إقرأ أيضاً: 17 أيّار “شيعي”.. واسم الدلع: ترسيم
ليس الطرح السويسري الذي يقترح مشاورات بين القوى الفاعلة اللبنانيّة سوى رأس جبل الجليد. صحيح أنّ السفارة السويسريّة أصدرت بياناً أعلنت فيه تأجيل العشاء الذي كانت السفيرة في لبنان ستستضيف فيه ممثّلين لقوى سياسية لبنانيّة، مشيرةً إلى التمسّك باتفاق الطائف. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ شيئاً ما تغيّر في العمق اللبناني في ظلّ احتلال إيراني يتبيّن يوميّاً أنّه يعرف ما الذي يريده وما الهدف الذي سعى إليه من خلال التخلّص من رفيق الحريري الذي كان رمزاً للمحاولة الأخيرة لإنقاذ لبنان.