من مقهى المعقدين إلى البيان الشعري

مدة القراءة 5 د

ما كان ممكناً أن تكون مثقّفاً من غير أن تطأ قدماك مقهى المعقّدين الذي يقع في الشارع الأوّل المتفرّع من شارع السعدون ببغداد. بالضبط بعد ثانوية العقيدة للبنات (الراهبات سابقاً) ومكتبتي النهضة والتحرير لصاحبها بناي جار الله مقابل مطعم نزار الذي كان صاحبه يخفض أسعاره لزبائن مقهى إبراهيم المعقّدين.

لم أكن أعرف وأنا في سنوات نضارتي الثقافية الأولى أنّ رواد ذلك المقهى كانوا مزيجاً من المثقّفين الوجوديّين ورجال الأمن. لم يكن المقهى ضاجاً لذلك كانت الجمل المتمرّدة تقع على المناضد كلّها كما لو أنّها تسقط من السماء. أتذكّر أنّ الشاعر وليد جمعة وهو من زبائن المقهى الدائمين كان قد ألقى قصيدته “تفو” في حدائق اتحاد الأدباء. بعدها عاد متوّجاً وكان رجال الأمن معجبين بتلك القصيدة. كما أتذكّر أنّ الناقد الفنّي عادل كامل الذي سُجن بسبب خطف صديقته بالاتفاق معها من أجل طلب فدية من عائلتها كان قد عرّفني على أشخاص قال لي في ما بعد إنّهم رجال أمن. كان المقهى مستباحاً بطريقة مريحة.

 

علاقة الأمنيين مع المثقفين

قال لي صلاح فائق إنّه كان يلتقي سركون بولص وزهدي الداووي وفاضل العزاوي ومؤيّد الراوي وجان دمو وجليل القيسي وأنور الغساني في مقهى رقم خمسة. وهو نفسه مقهى المعقّدين. أمّا لماذا الرقم خمسة فلا أحد يعرف السرّ. قد تكون تلك تسمية أمنيّة. ولأنّ أحداً من المعقّدين (وهي التسمية التي أطلقها رجال الأمن على قرّاء الكتب في المقهى) لم يكن يثق بالهدنة المعقودة ضمنا مع رجال الأمن فإنّ ذلك جعلهم لا يثقون بصداقة رجال الأمن. لذلك كانوا يغيّرون الحديث كلما اقترب رجل أمن حتى لو كان صديقاً لهم. ولأنّ لرجال الأمن حساسيّة فائقة إزاء ما لم يحدث فإنّهم كانوا يبتسمون وهم ينصتون إلى الأحاديث المبالغ في سذاجتها وسطحيتها.

شيء ما تغير في المزاج الثقافي بحيث صار من غير الممكن بالنسبة للعراقيين التراجع عن عودة الوعي للقصيدة العراقية الحديثة

كان رجال الأمن مكلّفين بالاكتفاء بمراقبة الحزبيّين، شيوعيّين وبعثيّين وقوميّين ولكن بسبب اللغة الغامضة التي يتكلّمها مثقّفو المقهى صار من الصعب عليهم التعرّف على الحزبيّين من بينهم وتمييزهم عن الآخرين. وهو ما دفعهم إلى التشكّي عند رؤسائهم الذين رفعوا الشكوى بدورهم إلى مدير الأمن الذي أمر باعتقال الجميع. وبما أنّ التعذيب لم يكن وسيلة مسموحاً بها في أقبية الأمن في عهد الرئيس عبد الرحمن عارف فقد تمّ الاكتفاء بأخذ أقوال المعتقلين. وهي أقول لم يُفهم منها إلا كونها أحاديث مجانين فأطلق سراحهم في اليوم نفسه.

تلك حكاية تمّ تداولها بمزيج من الضحك والشعور بالبطولة لأنّها صارت بعد أن تمّ الترويج لمواجهة لم تقع ما بين زبائن مقهى المعقّدين الذي هم رموز التحوّل الستّيني في الأدب العراقي وبين أجهزة الأمن التي خسرت المعركة أمام الحرّية. بعدها عاد الجميع إلى مقاعدهم في المقهى من غير خصام أو عداء مبيّت. المثقّفون المنتصرون ورجال الأمن الذين صاروا على دراية بعناوين من نوع “العبثيّة والوجودية والعدميّة” وكانوا على يقين من أنّها لم لم تكن ضارّة بالنظام السياسي.

 

الشعر بإشراف السلطات

كان مزعجا بالنسبة لمثقّفي ذلك الزمن أن لا تُظهر السلطة الأمنيّة من خلال رجالها اهتماماً بهم. وكان لافتاً أنّ ذلك الوضع استمر حتى بعد الانقلاب البعثي (تموز 1968). والدليل على ذلك أنّ الشعراء المتمرّدين نجحوا في إصدار مجلّتهم “شعر 69” عن مؤسسة نشر رسمية. لم تُصدر تلك المجلّة إلا أربعة أعداد منها. غير أنّ البيان الشعري الذي تصدّر العدد الأوّل والذي وقّعه فاضل العزاوي وخالد علي مصطفى وفوزي كريم وسامي مهدي كان أشبه بالعصف الذي أحدث خلخلة عظيمة في الحياة الثقافية العراقية. فكُتبت مئات المقالات المندّدة بذلك البيان غير أنّ أحداً من كتّابها لم يطالب بإغلاق المجلة.

احتوى البيان الشعري على كلّ الكلام الغامض الذي كان يُقال في مقهى المعقّدين ولو كانت الفرصة قد أُتيحت لرجال الأمن الذين كانوا يجلسون في ذلك المقهى للاطلاع على شيء من ذلك البيان لأدركوا أنّهم كانوا ينصتون إلى كلام ملغّز فيه الكثير ممّا يمكن أن يتعرّف المرء من خلاله على تناقضات المشهد الثقافي. فالفتية المتمرّدون والمشاغبون والعبثيون نجحوا في أن يزلزلوا الحياة الثقافية الساكنة من غير أن يتعرّضوا للمساءلة الأمنيّة. ذلك لأنّهم إستلهموا قوّتهم من المؤسسة الرسمية التي أصدرت مجلّتهم.

إقرأ أيضاً: لماذا يخاف المثقف العربي من تناول الحاضر؟

لم يكن أحد يتوقّع أنّ زمن الحريات قد انتهى بصدور العدد الرابع من مجلّة شعر 69. من المؤكّد أنّ شعراء بعثيّين فاشلين كانوا قد وقفوا وراء قرار إيقاف تلك المجلة عن الصدور. وبالرغم من أنّ مجلّة “الكلمة” الأدبية التي رأس تحريرها القاص موسى كريدي ووقف وراءها الشاعر حميد المطبعي كانت لا تزال تصدر غير أنّها فقدت بريقها مقارنة بـ”شعر 69″.

شيء ما تغيّر في المزاج الثقافي بحيث صار من غير الممكن بالنسبة للعراقيين التراجع عن عودة الوعي للقصيدة العراقية الحديثة بصدور كتب شعرية مثل “الطائر الخشبي” لحسب الشيخ جعفر و”الأخضر بن يوسف ومشاغله” لسعدي يوسف و”الشجرة الشرقية” لفاضل العزاوي. يومها كان سركون بولص قد غادر العراق. غير أنّ ذلك العصر الذي كان ذهبيا بالنسبة للشعراء انقضى سريعاً ولم تعد العودة إلى مقهى المعقّدين ممكنة.

مواضيع ذات صلة

90 عاماً من فيروز: صوت تاريخنا… ولحن الجغرافيا

اليوم نكمل تسعين سنةً من العمر، من الإبداع، من الوطن، من الوجود، من فيروز. اليوم نحتفل بفيروز، بأنفسنا، بلبنان، وبالأغنية. اليوم يكمل لبنان تسعين سنةً…

سيرتي كنازحة: حين اكتشفتُ أنّني أنا “الآخر”

هنا سيرة سريعة ليوميّات واحدة من أفراد أسرة “أساس”، وهي تبحث عن مسكنٍ لها، بعد النزوح والتهجير، وعن مساكن لعائلتها التي تناتشتها مناطق لبنان الكثيرة…

الياس خوري: 12 تحيّة لبنانية وعربية (1/2)

العبثيّة، ثيمة تكرّرت في روايات الياس خوري بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. عبثيّة إمّا نحن نخوضها لتحرير الأرض والثورة على الجلّاد غير آبهين بحياتنا…

فيلم سودانيّ على لائحة الأوسكار… يحطّ في طرابلس

يأتي عرض فيلم “وداعاً جوليا” للمخرج السوداني محمد كردفاني الفائز بعشرات الجوائز في العالم، في مهرجان طرابلس للأفلام المنعقد بين 19 و25 أيلول الجاري في…