لا يختلف اللبنانيون على “إيجابيّات” اتفاقيّة الترسيم التي تتمثّل بأمرين أساسيَّين: ابتعاد أخطار الحرب والنزاع، وإمكان استفادة لبنان من دخلٍ معتبرٍ من الغاز والنفط. لكنْ بعد هذين الأمرين لا يكاد اللبنانيون يتّفقون على شيء، مرّةً في الوقائع، ومرّةً في التقديرات والعواقب.
انتصار على الطائف والسُنة
في الوقائع يدّعي أطرافٌ عديدون، من رئيس حكومة إسرائيل يائير لابيد إلى نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب ومدير عام الأمن العامّ و(مستشار الرئيس نبيه بري) علي حمدان(!)، أنّهم أصحاب الفضل في الاتّفاق، وأوّل هؤلاء بالطبع رئيس الجمهورية ميشال عون الذي حقّق طوال عهده الميمون مئات الانتصارات وأهمّها الانتصار على “الطائف” والدستور وسُنّة لبنان، والآن الانتصار على إسرائيل التي انهزمت أمام عزيمته ودبلوماسية جبران باسيل وبو صعب.
منذ العام 2009 تدافع الدولة اللبنانية عن حقّها بالخطّ 23. وقد تسلّم برّي الأمر منذ العام 2011 وطال التفاوض السرّيّ معه عليه: لماذا برّي وليس رئيس الجمهورية ميشال سليمان مَثَلاً وذاك من صلاحيّاته بحسب الدستور؟! سنعود لذلك.
هذا الانتصار أو الإنجاز يخدم سمعة الانتصار الدائم لحزب الله الذي كان قد هدَّد بالمسيَّرات، وهو ما كان محتاجاً إلى ذلك لأنّ إسرائيل ما كانت ضدّ الخط 23 ولا حتى ضدّ حقل قانا
نصر الله يطلب التراجع
الثابت أنّ رئيس الجمهورية الحالي وبعد بدء التفاوض العلنيّ هو الذي عطّل الملفّ واستخدم في ذلك خبراء الجيش والجغرافيا مصرّاً على الخطّ 29 الذي يشمل حقل كاريش. هل كان يفعل ذلك لاعتقاده حقاً أنّ هذا هو حقّ لبنان في الحدود البحرية مع فلسطين المحتلّة، أم لأنّه أراد مماحكة نبيه برّي والاستئثار بالملفّ دونه؟ هذا ما لا نعرفه. ولذلك فإنّ الاتفاق تأخّر لسنتين بسبب إصراره. لماذا رجع فخامة الرئيس إلى خطّ برّي والخطّ القديم للحكومة اللبنانية أخيراً؟ هذا التراجع نعرف سببه، وهو طلب نصر الله منه التراجع، وفي الوقت نفسه إعطاء الرئيس فرصة الظهور بمظهر المفاوض الأوّل إنّما على الخطّ القديم. إسرائيل ما خسرت شيئاً، بل حتى حقل قانا ستحصل على نصيبها منه. أين انتصر عون إذن؟ ما انتصر بالطبع، لا بالمعنى القديم ولا بالمعنى الجديد. وأكاد أقول إنّ انتصاره في ملفّ ترسيم الحدود البحرية، هو مثل انتصاره في ملفّ الكهرباء، التي خمدت تماماً، لكنّ صهره حقّق انتصاراً بالفعل بإيقاع الدولة تحت دَيْن 45 ملياراً ولا كهرباء! إنّما وعلى الرغم من وضوح ذلك كلّه، هل يستفيد الخاسر الكبير من هذا الانتصار الوهميّ؟ قد يستفيد بالفعل من رضا الأميركيّين عن صهره أو من صفقات التقاسم على جلد الدبّ قبل صيده.
الرابحون المحليّون
ولنعُد إلى بقيّة الأطراف الرابحة المحليّة أوّلاً. الرابح نبيه برّي الذي كان يفاوض دائماً باسم حزب الله، وخطّه هو الـ 23 الذي جرى الاتفاق عليه أخيراً. إنّما الرابح الأكبر بالطبع هو زعيم الحزب المسلَّح ومَنْ وراءه. خلال أقلّ من شهرين اتّفقت إيران مع الولايات المتحدة على عدّة ملفّات، وقد تكون سائرة باتجاه الاتفاق على النووي. اتّفقوا على العراق والحكومة التي عاد إليها المالكي عبر أحد رجالاته. وكانت إدارة أوباما هي التي نصرته عام 2009 مع أنّه لم يكن قد حصل على الكتلة الكبرى في الانتخابات. وأطلقت إيران سراح أميركي وحصلت من أميركا عبر كوريا الجنوبية على سبعة مليارات دولار. وسرّعت أميركا مع إيران اتفاق الحدود البحرية مع لبنان لنصرة يائير لابيد قبل الانتخابات الإسرائيلية وقبل الانتخابات النصفية الأميركية.
سُمعة الحزب تصونها المُسيَّرات
هذا الانتصار أو الإنجاز يخدم سمعة الانتصار الدائم لحزب الله الذي كان قد هدَّد بالمسيَّرات، وهو ما كان محتاجاً إلى ذلك لأنّ إسرائيل ما كانت ضدّ الخط 23 ولا حتى ضدّ حقل قانا. كانت تريد حصّة من حقل قانا وحصلت عليها. المسيَّرات كانت دبلوماسيةً يُحسنها حزب الله منذ ثلاثين عاماً، ثمّ إنّ التوافق الأميركي-الإيراني ما كان قد حصل بعد. فالمسيَّرات ما كانت سبباً في أيّ شيء إلّا في صَون سمعة الحزب أنّه قادرٌ على الحرب في كلّ آن، وإن لم يكن من أجل لبنان أو فلسطين فمن أجل إيران دائماً. لقد كانت تمثيليّة ناجحة كالعادة، وكلّ الأطراف مسرورة وحسن نصر الله المنتصر الأكبر هو الأقلّ ضجيجاً.
فتعالوا ننظر في العواقب والمآلات.
الإسرائيليون والأميركيون قالوا إنّ الاتّفاق الحدودي وإنْ في البحر فقط حتى الآن، سيرفع عن إسرائيل التهديد الدائم لأنّنا صِرنا على شراكة أو مصالح مشتركة مع إسرائيل. وهذا صحيح لو كان الحزب يتحرّش بإسرائيل منذ العام 2006 على الأقلّ من أجل تحرير الأرض (والبحر أيضاً!) ومن أجل فلسطين. لكنّه في الواقع كان يقوم بذلك من أجل خدمة إيران في نزاعها مع الولايات المتحدة لا غير، وعندما يتقارب الطرفان فلا داعيَ للحرب. فهل يستفيد لبنان الآن واللبنانيون من أنّه لم تعُد لسلاح الحزب حاجة وطنية فيصير الحزب إلى الاتّفاق مع الحكومة اللبنانية على الاستراتيجية الدفاعية الخالدة؟ لن يحصل شيءٌ من ذلك لأنّ الحزب يريد الاستمرار في حكم لبنان بالسلاح، ثمّ إنّه لم تُحلّ كلّ المشكلات مع الولايات المتحدة وقد تحصل أزمات في هذا الملفّ الطويل العريض. وإلى هذا وذاك استخدم الحزب سلاحه وفرقه الاستخبارية ضدّ الدول والشعوب العربية، من لبنان إلى سورية.. إلى اليمن، وسيستمرّ في ذلك. ولا ننسى أنّ الهدنة باليمن انتهت والحوثيون بحاجةٍ إليه. والأميركيون يتّجهون أيّام بايدن والحزب الديمقراطي إلى الاتفاق على اليمن مع إيران وليس مع السعودية أو الخليجيين والعرب. وأوّل الملفّات المطروحة الآن الرئاسة اللبنانية، وسيتّفق الإيرانيون (عبر الحزب) مع الأميركيين والفرنسيين على الرئيس المقبل. وفي كلّ ذلك يبقى السلاح في خلفيّة المشهد لتخويف المسيحيين بعدما خوّفوا السُنّة.
الإسرائيليون والأميركيون قالوا إنّ الاتّفاق الحدودي وإنْ في البحر فقط حتى الآن، سيرفع عن إسرائيل التهديد الدائم لأنّنا صِرنا على شراكة أو مصالح مشتركة مع إسرائيل
الأميركيون في كل مكان
ولننظر في المشهد العامّ. الأميركيون في كلّ مكان. وفي العقدين الأخيرين ما اعتبروا العرب شركاء في الملفّ الشرق أوسطيّ، وإنّما نظروا إلى إسرائيل وتركيا وإيران. وهم مختلفون كثيراً الآن مع الأتراك، وصعد الخلاف الآن مع السعودية. وما دمنا نتحدّث عن الطاقة فإنّ قطر قوّتْ تحالفها مع واشنطن في مجال الغاز، وأبدت استعداداً للدخول في شراكة مع شركتَيْ توتال وإيني في الحفر في الحقول اللبنانية، ولقطر خبرة عريقة في استخراج الغاز البحري، بل قالت أيضاً إنّها تريد المشاركة في إعادة بناء الاقتصاد اللبناني(!). ولذلك فإنّ بحيرة بل بحر الغاز والنفط في المتوسّط فيما بين إسرائيل ولبنان وقبرص واليونان.. ومصر، يقع الآن في حضن واشنطن. وقد تصبح إيران (التي تريد إعطاء لبنان غازاً وبترولاً بالمجّان!) هي الشريك الأول في المنطقة لواشنطن العطشانة مثل أوروبا لكلّ أصناف الطاقة. وهكذا فالدور الذي كان يقوم به شاه إيران، يمكن أن تقوم به دولة الوليّ الفقيه بعد خصومةٍ مع أميركا لأربعة عقودٍ ونيّف. قلت لخبير إيراني في النفط والغاز: لكنّ شركاء إيران الاستراتيجيّين الحاليّين في روسيا والصين لن يقبلوا، فضحك وقال: شركاء المصالح أهمّ من شركاء الاستراتيجية، وكما تعلم فإنّ إيران كانت تحصل دائماً على ما تريد من أميركا على الرغم من الخصومة، فكيف إذا تحوّلت الخصومة إلى صداقة أو ما هو أقلّ: المهادنة!
إقرأ أيضاً: أثمان داخلية للحزب بعد الترسيم؟
لا أزعم أنّ اللبنانيين ينبغي أن يناموا الآن على حرير. فإيران الخميني ما دخلت بلداً إلّا ونشرت فيه البؤس والخراب، وبخاصّةٍ إذا كان البلد عربياً. وإن لم تصدّقوا فانظروا إلى سورية والعراق واليمن.. ولبنان. قال المعاقَب بالخازوق من جانب العسكري التركي: انقلني إلى الخازوق الآخر. فقال له العسكري متعجّباً: ماذا تستفيد من ذلك؟ قال: أستفيد دقائق من الراحة بين الخازوق والخازوق. نحن الآن في دقائق الانتقال بين الخازوقين، وكلاهما إيرانيّ. فلا حول ولا قوّة إلّا بالله.