دخول لبنان الفراغ الرئاسي بعد 10 أيام سيكون محطّ اهتمام العواصم المعنيّة بأوضاعه، مثلما سيكون شاغل بعض القوى السياسية التي يُتوقّع أن تبدأ حركة اتصالات سريعة بدءاً من الساعات الـ24 الأولى التي ستلي خروج الرئيس ميشال عون من القصر الرئاسي إلى منزله في الرابية، أي بدءاً من 1 تشرين الثاني.
هذا هو الانطباع الذي تشيعه دوائر خارجية، تتابع عن كثب الأزمة السياسية، وتجري اتصالاتها مع عدد من القيادات التي تشكّل مفتاحاً لأيّ انتقال من الفراغ إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
حسب الأوساط المطّلعة على التحرّك السعودي أنّه جاء نتيجة تنسيق ومتابعة وتفاهم بين الرياض وباريس وواشنطن على إبقاء الوضع اللبناني في هذه المرحلة المفصليّة التي ستشهد إعادة تكوين السلطة
ديناميّة جديدة في الإقليم بعد الترسيم؟
لا يستند إلى تلك الاتصالات وحدها توقّعُ الحراك الجدّي من أجل إنهاء الفراغ في ظلّ استمرار عجز كلّ من الفريقين المتقابلين في البرلمان عن ضمان أكثرية الثلثين لعقد جلسة انتخاب الرئيس، ولا الأكثرية المطلقة لأيّ مرشّح، إذ يتحدّث بعض الدبلوماسيين عن “دينامية” جديدة في لبنان والمنطقة مع إنجاز المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية بوساطة أميركية. فسبب حصول الترسيم اقتصادي، وهذا الدافع المدعوم دولياً ينشئ حالة من الاستقرار الإقليمي، ولذلك ستكون المنطقة، وتحديداً المشرق العربي، ولبنان منها، مختلفة عمّا كانت عليه قبل الترسيم.
يأتي الترسيم في سياق التركيز على معالجة معضلة الطاقة التي ستكون الشغل الشاغل لدول الغرب في السنوات المقبلة، وخصوصاً في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يتطلّب قدراً عالياً من الهدوء والاستقرار تحت عنوان “السلام الاقتصادي”.
تذهب هذه الدوائر إلى حدّ الإشارة إلى تغييرات حصلت في العراق بانتخاب رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للحكومة، وإلى تغييرات في إيران جرّاء انتفاضة النساء بعد مقتل مهسا أميني، وإلى ما ستنتجه الانتخابات الإسرائيلية التي تأتي بعد اتفاق الترسيم الذي لن تتراجع عنه أيّ حكومة تأتي نتيجة هذه الانتخابات.
وإذ تستثني هذه الدوائر سوريا من التغييرات التي تحصل، بدليل فشل دعوتها إلى القمّة العربية التي تنعقد في الجزائر بعد أيام، ترى أنّه سيُطلَق في لبنان ما تسمّيه “محرّكاً إيجابياً” بات متاحاً لمناسبة التهيّؤ لانتقال السلطة من عهد إلى آخر كخطوة ملزمة.
“المحرّك الإيجابيّ” لتقصير الفراغ
هل من مفاجآت متوقّعة تقود إلى هذه “الصورة الوردية”، التي تتحدّث عنها الدوائر الخارجية، في بلد اعتاد خلال العقدين الأخيرين الفراغ الرئاسي الطويل قبل إنضاج تسوية كانت نتيجتها في كلّ مرّة إذعاناً لِما يريده “حزب الله” وحلفاؤه في الرئاسة؟ وهل التفاؤل بتقصير مدّة الفراغ هذه المرّة يستند إلى أسس متينة، في ظلّ استمرار الانسداد السياسي، سواء في شأن تأليف حكومة تتجنّب النزاع الدستوري حول أحقّيّة حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي تسلُّم سلطات الرئيس، أو في التوافق على اختيار رئيس جديد؟
تتوقّع هذه الدوائر أن يتمظهر ما تسمّيه “المحرّك الإيجابي” لمعالجة أزمة الفراغ الرئاسي في زيارات خارجية مكثّفة للبنان في الأيام والأسابيع المقبلة، بدأت بزيارة وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا الأسبوع الماضي، على أن تتبعها سلسلة إطلالات أوروبية، وأن يشهد البلد المزيد من الاهتمام العربي أيضاً. وربّما يكون التحرّك الذي قام به السفير السعودي في بيروت وليد بخاري بلقائه الرئيس عون ثمّ رئيسَيْ البرلمان نبيه برّي والحكومة نجيب ميقاتي، بعد زيارة الأمين العام المساعد للجامعة العربية السفير حسام زكي، وتركيزهما على انتخاب الرئيس في موعده الدستوري، فاتحة التحرّكات العربية الضاغطة من أجل إنهاء الفراغ الرئاسي بسرعة. وتتمّ هذه التحرّكات في وقت أعلن رموز في معسكر حلفاء “حزب الله” أنّهم سينتقلون من اعتماد الورقة البيضاء في جلسات التصويت إلى السعي إلى الاتفاق على ترشيح أحد الأسماء.
تحرّك سعودي بالتنسيق مع الأميركيّ والفرنسيّ
حسب الأوساط المطّلعة على التحرّك السعودي أنّه جاء نتيجة تنسيق ومتابعة وتفاهم بين الرياض وباريس وواشنطن على إبقاء الوضع اللبناني في هذه المرحلة المفصليّة التي ستشهد إعادة تكوين السلطة، تحت العناية المباشرة، بحيث لا يترك لبنان لاحتمالات التأزّم ومضاعفاته المحتملة اجتماعياً وأمنيّاً، جرّاء الفراغ الرئاسي. وهما تنسيق ومتابعة انطلقا من البيان الأميركي الفرنسي السعودي في نيويورك أواخر شهر أيلول الماضي الذي شدّد على ضرورة انتخاب رئيس “قادر على توحيد اللبنانيين”. وإذ ترفض الدبلوماسية السعودية الحديث عن عودة الرياض إلى لبنان بعد انكفاء، وتصرّ على أنّ السعودية لم تنسحب من البلد، فإنّها تتحدّث عن مواصلة اهتمامها بساحته، سواء من زاوية المساعدات الإنسانية عبر الصندوق المشترك الفرنسي السعودي الذي بلغ رأسماله زهاء 100 مليون دولار أميركي، مع تأكيد نيّة دول أخرى المساهمة فيه قريباً، أو من زاوية المشاركة الدؤوبة في صياغة الحلول المستقبلية لأزمته، بعد الدفع نحو وفاء اللبنانيين بالتزاماتهم الإصلاحية.
يشدّد الذين اطّلعوا على خلفيّة ارتفاع وتيرة تحرّك الرياض على التوافق مع الجانب الأميركي خصوصاً، مشيرين إلى أنّ الخلاف بينها وبين واشنطن على خفض إنتاج النفط لم يؤثّر في التوافق على الوضع اللبناني، بل إنّ هؤلاء يُلفتون إلى تمكّن الجانب السعودي من حسم بعض المبادئ في المقاربة الدولية المشتركة حيال لبنان، منها رفض أيّ رئيس يكون متورّطاً بالفساد السياسي والمالي، والتشجيع على انتخاب رئيس جديد واختيار رئيس لحكومة عهده، وكذلك وزراء للحكومة لا يقبلون بقاء لبنان ساحة لانطلاق الأعمال العدائية ضدّ دول الخليج، بالإضافة إلى الثبات على اعتبار اتفاق الطائف أساساً للنظام اللبناني.
لرئيس وحكومة تلاقيهما المساعدات الخليجيّة
تفترض المقاربة السعودية للمرحلة التي ترافق انتخاب رئيس جديد أن تفسح القوى السياسية التقليدية المجال لمجيء وزراء مستقلّين مختلفين عن هويّة الوزراء الذين اعتاد كلّ الأطراف تسميتهم في الحكومات المتعاقبة، لأنّ المملكة أعدّت بعيداً من الأضواء، بعد البيان الثلاثي مع الجانبين الأميركي والفرنسي، وبالتشاور مع ممثّلين عن دول مجلس التعاون الخليجي، برنامجاً سياسياً اقتصادياً يتناول المساعدات التي يمكن لهذه الدول أن تقدّمها لإنقاذ البلد من أزمته الخانقة على الصعد كافّة، والتي تضعه على سكّة التعافي على أمل انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتظام وتفعيل عمل المؤسّسات الدستورية. وينطلق هذا البرنامج من نصوص المبادرة الخليجية الكويتية التي عُرضت على لبنان منذ عام.
ومن كثرة سماع ممثّليها في لبنان شكاوى من أنّ المملكة تركت لبنان وأهملته قياساً إلى دورها التاريخي فيه، يقول من يواكبون الاهتمام السعودي بلبنان إنّ الرياض تعتقد أنّ الموقف اللبناني نفسه كان المشكلة في المرحلة السابقة لامتناع المسؤولين عن الوقوف ضدّ استخدام البلد منصّة للأعمال العدائية حيال المملكة. وفي اعتقاد هؤلاء أنّ انتخابات الرئاسة فرصة لتغيير هذا النهج الذي يحفّز الرياض وسائر الدول الخليجية على مساعدة لبنان، وفق البرنامج الذي جرت صياغته في هذا الصدد، والذي إذا بدأ تنفيذه فسيحفّز أيضاً دولاً أخرى على الاستثمار في لبنان. فالبرنامج الذي كشفت عنه الأوساط المواكبة لإعداده، ينطلق من مشاريع الاتفاقات الـ22 التي أُعدّت وكان يفترض توقيعها في العام 2019، لكنّ التأزّم في البلد حال دون ذلك.
النموذج العراقيّ
تحرص الأوساط المواكبة إيّاها على إعطاء مثل العلاقة السعودية العراقية، التي تطوّرت في السنوات الأخيرة، حيث كان للحكومة العراقية مواقف واضحة تكرّس عروبة بلاد الرافدين، وضدّ التعرّض لأمن المملكة (خلافاً للمواقف اللبنانية في العهد المنقضي)، الأمر الذي سهّل قيام تعاون اقتصادي يشمل الاستثمار في مجالات عديدة، بما فيها الربط الكهربائي بين البلدين في شكل أدّى إلى تطبيع العلاقة على الرغم من النفوذ الإيراني في العراق. فهل يصحّ هذا لبنانيّاً؟
إقرأ أيضاً: العراق يُطمئن السعودية ويتمسك بعروبته؟
مع غلبة التوجّه نحو الاستقرار على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية برعاية أميركية إثر الترسيم، يرى المتابعون للتحرّك السعودي أنّ ما بدا أنّه تفاهم أميركي إيراني على الترسيم، يصعب أن ينسحب على التفاهم في شأن الرئاسة اللبنانية، ولا سيّما إذا أُخِذ في الاعتبار انعكاس الاصطفاف الدولي الإقليمي الناجم عن حرب أوكرانيا، حيث لا تساهل أميركياً حيال تقدّم نفوذ حلفاء موسكو، فيما إيران باتت منحازة إليها بالكامل. وبالتالي لن تقبل برئيس موالٍ لطهران في لبنان. ويؤكّد العارفون بموقف السعودية أنّها لن تقبل بتسويات إقليمية على حساب لبنان، سواء بحجّة أنّ الأولوية بالنسبة إليها هي اليمن وليس لبنان، أو لأيّ حجّة أخرى.