لم يأتِ من فراغ كلامُ رئيس الوزراء العراقي المكلّف محمد شياع السوداني، في الساعات الأولى لتكليفه، عن تمسّكه بسياسة الانفتاح العراقي على العمقين العربي والدولي. لقد أراد بهذا التأكيد والموقف أن يوجّه رسالة واضحة لهذين العمقين بأنّ التغيير الحاصل على رأس السلطة التنفيذية والقيادة العامّة للقوات المسلّحة لن يعرقل أو يكبح أو يعطّل هذا المسار، الذي لا يمكن حصره بمرحلة معيّنة أو شخص محدّد، إذ هو جزء أساس من سياسة الدولة العراقية التي تضع المصالح الاستراتيجية للعراق على رأس أولويّاتها واهتماماتها. وقد حرص “الإطار التنسيقي” وحلفاؤه في “إدارة الدولة” على طمأنة السعودية لتمسك السلطة الجديدة بـ “عروبة” العراق وعلاقاته مع المجتمع الدولي.
الحكيم طمأن السعودية عن خيار العراق العروبي
قوى “الإطار التنسيقي” والتحالف الجديد المسمّى “إدارة الدولة”، الذي يضم الحزب الديمقراطي الكردستاني وتيار “السيادة”، حاولوا توجيه رسائل طمأنة للأطراف الإقليمية المعنيّة بالساحة العراقية وتطوّراتها، خصوصاً أنّ هذه القوى كانت تعتبر أنّ بقاء الكاظمي على رأس السلطة التنفيذية استمراراً لمسار الانفتاح العراقي باتجاه العمق العربي.
في هذا السياق كانت زيارة زعيم تيار “الحكمة” عمّار الحكيم للسعودية واللقاء المطوّل مع وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي استمرّ حتى الساعات الأولى من الفجر، نقطة مفصليّة في تسهيل استكمال الاستحقاقات الدستورية في العراق، وفي إحداث تغيير في رئاسة الحكومة، وإسقاط المحاذير العربية، وتحديداً السعودية، من وصول شخصية محسوبة على “الإطار التنسيقي” الذي يُعتبر ممثّلاً للإرادة الإيرانية على الساحة العراقية.
ما شهدته العملية السياسية لجهة استكمال الاستحقاقات الدستورية في رئاستَيْ الجمهورية والوزراء لا يشكّلان هزيمة لأيّ من القوى السياسية الداخلية في العراق
حصل هذا بعد تأكيد الحكيم تمسّك القوى العراقية، وخاصة أحزاب “الإطار التنسيقي”، بتعزيز سياسة الانفتاح والتعاون العراقي العربي والخليجي، الأمر الذي أسهم في تحريك عجلة العملية السياسية والوصول إلى هذه النتائج، ولا سيّما أنّ القوى العراقية الشريكة في السلطة والقرار سعت إلى عدم ربط أيّ تطوّر سياسي واستراتيجي بجهة محدّدة على الساحة العراقية وحصره بها، وإلى التأكيد على أنّ سياسة الانفتاح تُعتبر مساراً تراكميّاً لم يبدأ قبل ثلاث سنوات.
عليه، فإنّ ما شهدته العملية السياسية لجهة استكمال الاستحقاقات الدستورية في رئاستَيْ الجمهورية والوزراء لا يشكّلان هزيمة لأيّ من القوى السياسية الداخلية في العراق، لأنّ المرحلة المقبلة من المفترض أن تشهد انفتاحاً من الرئيس الجديد للوزراء السوداني على السيّد مقتدى الصدر، بهدف طمأنة الأخير وتأكيد عدم السعي إلى إقصائه أو إخراجه من العملية السياسية من خلال الحفاظ على شراكته في التركيبة الوزارية.
رغم إعلان الصدر رفضه المشاركة في الحكومة واعتبارها حكومة ميليشيات.
عملياً، فإن جميع الأطراف الإقليمية والدولية خرجت غير خاسرة من المعادلة الجديدة، لكن بدون غلبة واضحة وصريحة لطرف على آخر. وبالتالي، وبناء على التوجّهات التي عبّر عنها الرئيس الجديد للوزراء، من المفترض أن تشهد المرحلة المقبلة في العراق مساعٍ جدّية لترميم الأوضاع الداخلية اقتصادياً واجتماعياً وإنمائياً وأمنيّاً وسياسيّاً، إلى جانب العمل على تحقيق توازن في العلاقات الخارجية، خاصة مع المحيط الإقليمي والعمق العربي.
تعقيدات العراق أسقطت طموح الكاظمي بتجديد ولايته
بعد مخاض استمرّ سنة بالتحديد، وشهد الكثير من التطوّرات والتغييرات والتبدّلات في التحالفات وموازين القوى، ذهبت القوى العراقية الفائزة في الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي جرت في تشرين الأول من العام الماضي، إلى تفاهم سهّل استكمال الاستحقاقات الدستورية المتمثّلة في انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو عبداللطيف رشيد، القيادي في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، على حساب الرئيس السابق برهم صالح الذي كان يطمح إلى تجديد ولايته.
وعلى هذا المسار تم تكليف محمد شياع السوداني لتشكيل حكومة جديدة، وهو مرشّح “الإطار التنسيقي” للقوى والأحزاب الشيعية القريبة من إيران وتحالفاتها الكردية (الاتحاد الوطني) والسنّيّة (حركة عزم – مثنى السامرّائي)، وذلك على حساب رئيس حكومة تصريف الأعمال مصطفى الكاظمي الذي راهن على أن تسمح له تعقيدات المرحلة بتجديد ولايته.
العوامل التي أسهمت في خروج العملية السياسية من حالة المراوحة والتجاذب والتعطيل والطريق المسدود الذي وصلت إليه، هي عوامل داخلية وإقليمية ودولية متشعّبة ومتداخلة. إلا أنّ العامل الداخلي كان الأكثر تأثيراً هذه المرّة، على خلاف السياق الذي جرت عليه العادة في المعادلات العراقية منذ سقوط بغداد عام 2003.
للمرّة الأولى تصطدم طهران بموقف متشدّد من “الإطار التنسيقي” وهو من القوى المحسوبة عليها تدور في فلكها
أخطاء استراتيجية
كانت الأخطاء الاستراتيجية، التي ارتكبها التيار الصدري بقيادة زعيمه مقتدى الصدر الفائز الأول في الانتخابات المبكرة بواقع 73 مقعداً، حاسمةً في الوصول إلى هذه النتيجة، وقد بدأت بقرار الاستقالة من البرلمان، ثمّ احتلال مبنى مجلس النواب، فمحاولة احتلال مقرّ المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء. والخطوة الأخطر كانت في احتلال القصر الحكومي ومحاولة اللجوء أو استخدام الخيار العسكري للسيطرة على المنطقة الخضراء الدولية والمقرّات الرسمية فيها.
قرار الصدر بالاستقالة هَدَف إلى إسقاط العملية السياسية، مراهناً على خطوة مماثلة من حليفَيْه في تحالف “إنقاذ وطن” الكردي (الحزب الديمقراطي بزعامة مسعود بارزاني) والسنّيّ (تحالف السيادة – محمد الحلبوسي وخميس الخنجر). إلا أنّ تريّث هذين الشريكين ترك الصدر وحيداً، خاصة بعدما لمس توجّهاً لديهما للذهاب إلى صفقة مع “الإطار التنسيقي” لتمرير الاستحقاقات الدستورية. هذا الأمر دفعه إلى اعتماد خيار التصعيد لتعطيل هذا المسار وفرض أمر واقع سياسي مختلف انطلاقاً من الشارع.
كان إعلان تشكيل تحالف “إدارة الدولة” في الخامس والعشرين من أيلول الماضي مؤشّراً حاسماً على جدّية القوى السياسية ونيّتها الخروج من الانسداد السياسي، بعدما جمع هذا التحالف كلّ المتناقضات والقوى المتصارعة والمختلفة من قوى “الإطار التنسيقي” وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني والائتلاف السنّي بقيادة الحلبوسي والخنجر والحزب الديمقراطي بزعامة بارزاني، فيما بقي الصدر وتيّاره خارج هذه التركيبة.
القوى الدولية وإيران أرادوا هذه النهاية
لم يكن ترتيب البيت الداخلي بعيداً عن أعين القوى الإقليمية وحتى الدولية. فاللاعب الإيراني الذي كان مواكباً لكلّ التفاصيل والحوارات التي تجري في الكواليس، عمل بكثير من الأناة والتروّي، وبصبر “حائك السجّاد” وهي المهنة التي يتقنها، من أجل دفع العملية السياسية إلى نهاياتها التي وصلت إليها، والقبول بها وبمخرجاتها، حتى لو كانت في بعض مراحلها ونتائجها تتعارض أو تختلف مع رغباته.
إقرأ أيضاً: “الإطار” في كمين الصدر
للمرّة الأولى تصطدم طهران بموقف متشدّد من “الإطار التنسيقي” وهو من القوى المحسوبة عليها تدور في فلكها. ذلك أن “الإطار” عارض التجديد للكاظمي وتمسك بتسمية محمد شياع السوداني لموقع رئاسة الحكومة. وقد أظهر تمسك “الإطار” بهذا الترشيح وحدة الموقف وكَسَر كلّ الرهانات على تفتيته وإضعافه. وإلى ذلك فإنّ التحدّي الذي شكّله الصدر والخوف من اعتماده سياسة إقصاء وإخراج “الإطار” من المعادلة السياسية والسلطوية في حال سيطرته على رئاسة الوزراء، شكّلا دافعاً لتمسّك هذه الأحزاب بموقفها وعدم تفرُّقها.