يحيى جابر: بعلبك تنزّ دماً وكوميديا سوداء على المسرح

مدة القراءة 5 د

لم نكن نعرف، نحن المئة أو المئتي مدعوّ إلى العرض الأوّل من مسرحية يحيى جابر “هيكالو” (بطولة عباس جعفر)، من أين تخرج الضحكات خلال العرض. أحياناً كان بضع عشراتٍ يضحكون ويستمرّ الآخرون في صمتٍ مهيب، لشدّة “المأساة” في النصّ المحكم الذي كتبه يحيى، كما حينما يروي بطل المسرحيّة الوحيد، “جعفر”، نكتة قديمة معروفة، لأصدقائه في دار الأيتام: “علي حميّة قتل إمّو وبيّو ليطلع رحلة مع الأيتام”. أو “علي حميّة قتل عمّو وزوجة عمّو لياخذ معه ابن عمه بالرحلة”.

أيتام العشائر

تتّخذ النكتة قوّتها وتجدّدها حين نعرف أنّها قصّة حياة جعفر الحقيقية، اليتيم الذي صار نجماً كما نعرفه اليوم.

وجعفر، حسب المسرحية، يتيم حقيقيّ، قتل والده حينما كان عمره عاماً وبضعة أشهر. وكان مصيره أحد أمرين: إمّا أن تبقيه والدته في حيّ الشراونة الشهير، حيث السلاح وتجارة الممنوعات والعصيان، ليكبر على فكرة الأخذ بالثأر، وإمّا أن تهرب به إلى بيروت. وهذا ما فعلته، وأودعته في “دار الأيتام” بمنطقة الأوزاعي. هناك التقى بابن عمّه صبحي، اليتيم مثله، وراشد زعيتر وإيمان شمص، اليتيمين كذلك.

هي مسرحية أقرب إلى عمل أدبي منها إلى كوميديا مسرحية. إنّها أحد تلك الأعمال التي تغوص في مصائر البشر المحتومة، وتروي كيف يولد ابن آل جعفر مطلوباً ويعيش مطلوباً ومطلوباً يموت برصاص الثأر أو برصاص الغدر

المسرحيّة عن العشائر في بعلبك، عن اليتم والقتل والثأر، في البيئة التي نعرف أنّها “خارجة على القانون”. لكنّها في الواقع ضحيّة الأعراف الاجتماعية وتخلّي إدارة الدولة عن مناطق الأطراف. حين يروي أنّ جدّه نزح من الجرد إلى بعلبك، قرب القلعة، طمعاً بالكهرباء، يُنهي الفصل بقول: “لو طلعت الكهرباء، ما كانوا نزلوا بيت جعفر… لو طلعت المدرسة ما كانوا نزلوا بيت جعفر…”.

سجلّ عدليّ بدل إخراج القيد

هي حكاية عن الطفل الذي يولد معه سجلّه العدليّ بدل إخراج القيد. عن الشيخ نوفل الذي ليس شيخاً: “ربعُه دين وثلاثة أرباعه دنيا”. شيخٌ “مشبوه” يمثّل حالة رجال الدين المتورّطين في “الدنيا” أكثر من التزامهم بتعاليم السماء. عن المذهبية حين يخطف ابن عمّ جعفر، صبحي، مطراناً وشيخاً سنّيّاً كي يضغط على الحكومة لتفرج عن زوجته، بعدما أوقفتها القوى الأمنيّة لتضغط عليه كي يسلّم نفسه.

مسرحية عن بعلبك – حيّ الشراونة، يخصّصها يحيى جابر ليُخرج من ذاكرة جعفر الحقيقية توثيقاً وتأريخاً منذ أوّل منزل لآل جعفر في حيّ الشراونة في الخمسينيّات، ويتسلسل من جدّه إلى والده عجاج فإليه هو جعفر. وكيف زاحم آل جعفر المسيحيّين في الحيّ، وأمام القلعة، إلى أن بات الحيّ كلّه لهم، ولم يعد فيه مسيحيون.

مسرحية أقرب إلى عمل أدبي منها إلى كوميديا مسرحية. إنّها أحد تلك الأعمال التي تغوص في مصائر البشر المحتومة، وتروي كيف يولد ابن آل جعفر مطلوباً ويعيش مطلوباً ومطلوباً يموت برصاص الثأر أو برصاص الغدر.

هي مسرحية عن الطائفة الشيعية أيضاً: الديكور الأسود والثياب السود التي يلبسها جعفر. رحلة جدّه السوداء ووالده من بعده ثمّ هو أيضاً. حكاية عن قدر مدينة بعلبك وحيّ الشراونة الأسود، وكيف توسّع “آل جعفر” من غرفة مستأجرة لدى “آل سركيس” إلى أن طردوا المسيحيين على نحو غير مباشر… حكاية طويلة عن الدم والقتل والثأر والدموع. ولم نكن نعرف أثناء العرض من أين يُخرج نصّ يحيى، وجعفر بأدائه الموهوب، الضحكات من دواخلنا.

أحياناً كنّا نضحك ثمّ نخجل من ضحكاتنا لأنّها ضحكات البليّة وشرّها. وشرّ بليّة عبّاس جعفر ويحيى جابر يُضحك كثيراً لأنّه شرّ بليّتنا أيضاً، نحن المقيمين في هذا الجحيم من الأحقاد والثارات المتبادلة، نحن اللبنانيّين، ونحن الشيعة، ونحن أهالي بعلبك والجنوب والبقاع، ونحن أهالي حيّ السلّم وبئر العبد والضاحية الذين ما إن تندلع الطلقات في حيّ الشراونة، حتى تشتعل لدينا.

عوالم يحيى جابر الواسعة

هي قطعة أخرى من قطع الـMaster piece التي يخترعها يحيى جابر مرّة في “من كفرشيما للمدفون” مع نتالي نعوم التي أعاد اختراعها ممثّلة مسرحية، عن الإرث المسيحي في بيروت وحروبها وسلمها. ومرّة مع أنجو ريحان في “مجدّرة حمرا”، عن المرأة الشيعية، ابنة النبطية، القويّة، والمكسورة، والحرّة. ومرّة بحسين قاووق، وحكاية ابن الشيّاح الذي صار نجم “شووو هاا”. وأوّلاً بزياد عيتاني وحكاية “بيروت الطريق الجديدة” التي عرضها لأعوام وشاهدها عشرات الآلاف. واليوم يصل إلى بعلبك مع عباس جعفر، وبعد مسرحية “تعارفوا” التي يستمرّ في عرضها هنا وهناك، عن شبّان وشابّات لبنانيين وغير لبنانيين ولبنانيّات…

هي قطعة أخرى من قطع الجمال التي يتحفنا بها يحيى جابر، توثيقاً وحفراً ونبشاً في تواريخنا الشخصية وفي مصائرنا التي تتقاطع في كلّ مرّة، ليقول لنا كيف صرنا شركاء في هذه الجرائم التي نعيش في داخلها، لكن بلغة كوميدية، وبضحكة، تطلع وإن من مكان أسود.

إقرأ أيضاً: خرافات الكوثرانييييي… ما بعد بعد “زراعة البلاكين”

ساعتان من الضحك والتفكير، من الكوميديا السوداء، عاد بهما يحيى جابر في مسرح “دوّار الشمس”، حيث يعرض أكثر من مسرحية، وحيث أعاد التعاون وبدأ بإعادة عرض “بيروت الطريق الجديدة”… مسرح يبعد أمتاراً قليلة عن مكان مقتل “السيكو” وآخرين، خلال معركة الطيّونة الشهيرة. والمسرحية تروي بعضاً من سيرة عالم حيّ الشراونة، والعالم الذي ينتج مصائر، مثل مصير “السيكو”.

مواضيع ذات صلة

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…

السّوداني يراسل إيران عبر السعودية

 لم يتأخّر رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني ومعه قادة القوى السياسية في قراءة الرسائل المترتّبة على المتغيّرات التي حصلت على الساحة السورية وهروب رئيس…