عند الساعة السادسة من مساء يوم التاسع عشر من شهر تشرين الأوّل عام 2012، كنت إلى جانب سفير المملكة العربية السعودية في بيروت الأسبق الصديق العزيز علي عوّاض العسيري في فندق “الحبتور”، للمشاركة في احتفال تكريمي تقيمه الملحقية الثقافية السعودية للطلاب السعوديين في الجامعات اللبنانية. فجأة تلقّى السفير العسيري خبراً مفاده أنّ الانفجار الذي حصل في منطقة الأشرفية ببيروت استهدف رئيس شعبة المعلومات العميد وسام الحسن. نظر إليّ السفير العسيري والدموع تملأ عينيه من دون أن تنهمر قائلاً: “استشهد وسام”، ثمّ انقطع عن الكلام لدقائق وقال: “لقد خسر لبنان والعرب باغتياله قيمة أمنيّة وسياسية كبيرة جدّاً”.
يُسجّل للقاتل أنّه دقيق وذكيّ وخبير باختيار أهدافه في كلّ الاغتيالات التي ارتكبها وصولاً إلى اغتيال وسام الحسن. لم تكن أهداف القاتل خبط عشواء، ولا قتلاً لأجل القتل وحسب، بل كانت خارطة طريق تُفضي إلى تفكيك لبنان الجديد الذي بدأ بالولادة منذ صدور قرار مجلس الأمن الدولي 1559. كلّ اغتيال نُفّذ كان بهدف تفكيك “برغي” كبير في هذه الماكينة السياسية التي وضعت نُصب عينيها بناء لبنان العربي السيّد الحرّ المستقلّ. ما كان ليكتمل اغتيال رفيق الحريري بطُنٍّ من المتفجّرات لو لم يحصل اغتيال وسام الحسن.
بين 2005 و2012 رجلان كبيران تمّ اغتيالهما يمثّلان مشروعاً واحداً. لكنّ المؤكّد في الاغتيالين أنّ القاتل هو نفسه
في 14 شباط 2005 أُسقط الوجه السياسي لمشروع بناء الدولة، وفي 19 تشرين الأوّل 2012 أُسقط الوجه الأمنيّ، وما بين ساحة السان جورج موقع جريمة اغتيال الرئيس الحريري وذاك الشارع في الأشرفية موقع اغتيال وسام الحسن مسافة 2 كيلومتر، لكنّ القاتل كان واحداً يسرح ويمرح ويرصد حركة الرجلين، ويختار السيّارة المفخّخة، ويحدّد كميّة المتفجّرات فيها.
بين 2005 و2012 رجلان كبيران تمّ اغتيالهما يمثّلان مشروعاً واحداً. لكنّ المؤكّد في الاغتيالين أنّ القاتل هو نفسه، ذاك القادر على الرصد والمتابعة والتفخيخ والتنكّر لِما ارتكب والتمهيد لكلّ ذلك بحملة من التخوين والتهديد والوعيد.
منذ العام 2005 حتى هذه اللحظة كان اللبنانيون يتمتّعون بما بناه رفيق الحريري، من طرقات وأوتوسترادات ومطار دوليّ ومدارس رسمية ومستشفيات. ومنذ العام 2012 حتى تاريخ كتابة هذا المقال ما زال اللبنانيون يعيشون بأمن واستقرار بحدّه الأدنى بعض الأحيان، بفضل المؤسّسة الأمنيّة والمنطق الأمنيّ الذي أرساه وسام الحسن في شعبة المعلومات، التي يعود الفضل إليها بشهادة الجميع في كشف مئات الشبكات العميلة لإسرائيل، والشبكات الإرهابية المتطرّفة العابرة للحدود والجاهزة للتخريب غبّ الطلب.
في هذه الأيام نشاهد نحن اللبنانيّين المعايشين لعصر جهنّم، انهيار كلّ ما بناه رفيق الحريري من نظام ماليّ وطبّي واقتصادي واجتماعي، والخشية كلّ الخشية أن نشهد مع الأيام انهيار الأمن الذي أرساه وسام الحسن، رغم الجهود الاستثنائية التي يبذلها رفاق وسام في قوى الأمن الداخلي.
إقرأ أيضاً: ميقاتي في روايتين: الشغور الرئاسيّ لأربع سنوات
في لقاء من اللقاءات القليلة التي التقيت فيها بوسام الحسن في مكتبه بمبنى المديرية العامّة لقوى الأمن الداخلي بالأشرفية قلت له: “تقاتلون التطرّف وتغفلون عن تجاوز عمل الميليشيات المسلّحة في الداخل”. فقال لي: “التطرّف إذا سيطر فسيكون أوّل أهدافه قتلي وقتلك، لذلك لا يمكن التهاون معه”. هي نفسها العبارة التي قالها لي الرئيس رفيق الحريري عندما زرته قبل أشهر من اغتياله وقلت له: “هناك تضخيم لمسألة الإرهابيين في مخيّم عين الحلوة”، فاستنكر كلامي قائلاً: “الإرهاب أضخم بكثير ممّا يمكن أن نتصوّره”.
اغتيل رفيق ثمّ اغتيل وسام. وما غفل عنه الرجلان أنّ الإرهاب والميليشيا وجهان لعملة واحدة، وما تغفل عنه في علم الأمن والسياسة هو ما سيكون سبب مقتلك.