لم تستطع إدارة جو بايدن الخروج عن الخطّ السياسي لإدارة باراك أوباما التي كانت تفرّق بوضوح بين الإرهاب السنّيّ والإرهاب الشيعي وتختزل كلّ مشاكل المنطقة وأزماتها بالملفّ النووي الإيراني.
كان أوباما يصرّ طوال السنوات الثماني التي أمضاها في البيت الأبيض، برفقة نائبه جو بايدن، على أن لا وجود لإرهاب تمارسه “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران، إن مباشرة أو عبر ميليشياتها المذهبيّة المنتشرة في العراق وسوريا ولبنان واليمن. كانت إدارة أوباما ترى أنّ الإرهاب في المنطقة والعالم “سنّيّ”، مستندة إلى غزوتَيْ نيويورك وواشنطن، اللتين خطّط لهما الإرهابي أسامة بن لادن، في الحادي عشر من أيلول 2001، وإلى ظهور تنظيم “داعش” الذي زايد في إرهابه على “القاعدة”.
لم يكلّف مسؤول أميركي نفسه في أيّ وقت عناء طرح سؤال بسيط من نوع: كيف عمل النظام السوري، الذي حماه أوباما، بالتفاهم مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وروسيا، على قيام “داعش”؟
لا يمكن بأيّ معيار من المعايير تبرير جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول. لكن هل يمكن اعتبار ذلك سبباً كافياً كي تكون الإدارة الأميركيّة رهينة إيران، وتتغاضى عن مقتل عشرات بل مئات المواطنين الإيرانيين
لم يسأل نفسه كم عدد الذين قتلتهم إيران في سوريا؟ أو كم عدد الذين قتلهم وهجّرهم بشّار الأسد؟ لم يسأل نفسه ما الذي يدور في إيران حاليّاً ولماذا كلّ تلك المسايرة الأميركية لـ”المرشد” علي خامنئي بدل دعوته إلى الخروج من السلطة بعد مقتل كلّ هذا العدد من الإيرانيين.
مبارك… والخامنئي
في إيران ثورة حقيقيّة تقودها المرأة. ردّ عليها النظام بقتل نساء ومواطنين عاديّين بما في ذلك أطفال. تولّت عمليات القتل قوّات الأمن الإيرانيّة، خصوصاً تلك التابعة لـ”الحرس الثوري”. هل حلال ما يفعله النظامان في إيران وسوريا وحرام ما فعله الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في العام 2011، علماً أن لا دم على يديه؟ استحقّ مبارك وقتذاك دعوة وجّهها إليه أوباما من أجل ترك السلطة فوراً.
لجأ أوباما إلى كلّ أنواع التهديد والابتزاز والتحريض. حمل ذلك مبارك على العودة إلى منزله.
ترفض إدارة بايدن التعلّم من تجارب الماضي القريب والاعتراف بأنّ الخضوع لمشيئة “الحرس الثوري” في إيران ليس سوى الطريق الأقصر لضرب ما بقي من استقرار في الشرق الأوسط والخليج والعالم. أين المنطق في شنّ حملة على المملكة العربيّة السعوديّة في ضوء اتّخاذ مجموعة “أوبك +” قراراً بخفض الإنتاج النفطي بمقدار مليونَيْ برميل يوميّاً من دون دراسة أميركيّة في العمق للنتائج التي ستترتّب على مثل هذا القرار؟ لماذا الربط المباشر بين السعودية وروسيا في مجال الطاقة وتجاهل أنّ “الحرس الثوري” هو الحليف الأساسي لفلاديمير بوتين وبات شريكاً له في حربه على أوكرانيا؟
يؤكّد معظم الخبراء أن لا تأثير فوريّاً للقرار على أسعار النفط، وأنّ الهدف في نهاية المطاف الحؤول دون هبوط حادّ لسعر برميل النفط يؤثّر سلباً على اقتصاد الدول العربيّة الخليجية. تستثمر هذه الدول في الوقت الحاضر في مشاريع ضخمة لتطوير بنيتها التحتيّة وتحسين وضع مواطنيها والمقيمين في أراضيها على كلّ المستويات بدل صرف الأموال في نشر البؤس والتخلّف والدمار كما تفعل “الجمهوريّة الإسلاميّة” عبر ميليشياتها المنتشرة في المنطقة.
زيارة الرياض: لا خفّة بعد اليوم
لا ترى إدارة بايدن إلّا بعين واحدة. جاء الرئيس الأميركي إلى السعوديّة في منتصف تموز الماضي، وعاد منها كما ذهب باستثناء اللقاء الذي عقده مع وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان. وهو لقاء كان مفترضاً أن يمهّد لمرحلة جديدة من العلاقات الأميركيّة السعوديّة في مستوى اللقاء التاريخي الذي انعقد بين الملك عبد العزيز والرئيس فرانكلين روزفلت على ظهر البارجة “كوينسي” في منطقة البحيرات المرّة في قناة السويس في شباط 1945. هيّأت السعودّية نفسها جيّداً، قبل ثلاثة أشهر، لاستقبال الرئيس الأميركي في عالم غيّرته الحرب الأوكرانيّة كلّيّاً، خصوصاً بعدما باتت كلّ دولة أوروبيّة تشعر بأنّها مهدّدة.
إنّه شعور طبيعي في ضوء المغامرة التي أقدم عليها فلاديمير بوتين الذي تسبّب بحرب داخلية أوروبيّة هي الأولى منذ انتهت حروب تقسيم يوغوسلافيا منتصف العام 1995.
جاء جو بايدن إلى جُدّة في وقت صار العالم أكثر تعقيداً، كذلك منطقة الخليج والشرق الأوسط كلّه. إذا كانت تجارب الأشهر القليلة الماضية كشفت شيئاً، فهي كشفت أن ليس في استطاعة الرئيس الأميركي التعاطي بخفّة وفوقيّة مع حليف قديم مثل المملكة العربيّة السعودية ولا مع حلفاء آخرين يدركون كيف يعمل العالم وطبيعة التوازنات فيه.
يدركون خصوصاً أنّ لديهم أيضاً وسائل ضغط على الإدارة الأميركية ويمتلكون القدرة على إيجاد تفاهمات فيما بينهم متى دعت الحاجة إلى ذلك. لم يستطِع جو بايدن وفريق عمله استيعاب تعقيدات المنطقة. لم يبارحه هاجس السعوديّة ومحمّد بن سلمان. يرفض رؤية التغييرات الكبيرة التي شهدتها المملكة على كلّ المستويات.
“عقدة” بايدن السعودية
لم يسأل الرئيس الأميركي نفسه لماذا على دول المنطقة إقامة شبكة علاقات خاصة بها دفاعاً عن مصالحها في غياب الثقة بالحليف الأميركي. كيف يمكن أن تكون هناك مثل هذه الثقة بحليف لم يستفِق على وجود قوّة إقليميّة اسمها المملكة العربيّة السعوديّة إلّا بعد الهجوم الذي شنّه فلاديمير بوتين على أوكرانيا وخلقه أزمة طاقة على الصعيد العالمي؟ هل مَن يتذكّر أنّ أوّل عمل قامت به إدارة بايدن بمجرّد دخوله البيت الأبيض كان رفع الحوثيين عن قائمة الإرهاب الأميركية؟ ما الذي يفعله الحوثيون حاليّاً، بفضل التساهل الأميركي؟ حوّلوا شمال اليمن بكلّ بساطة إلى قاعدة صواريخ ومسيّرات إيرانيّة تهدّد كلّ دولة من دول الخليج العربي.
إقرأ أيضاً: الدور القياديّ لمحمّد بن زايد
تحتاج إدارة بايدن إلى التخلّص من عقدة السعوديّة التي تحكّمت سابقاً بإدارة أوباما. حسناً، لا يمكن بأيّ معيار من المعايير تبرير جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي في إسطنبول. لكن هل يمكن اعتبار ذلك سبباً كافياً كي تكون الإدارة الأميركيّة رهينة إيران، وتتغاضى عن مقتل عشرات بل مئات المواطنين الإيرانيين، وتتجاهل في الوقت ذاته أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” هي حليفة فلاديمير بوتين وليس محمّد بن سلمان؟