صدّام وبوتين: أيّهما أكثر تهوراً؟

مدة القراءة 11 د

المأزق العميق الذي يعاني منه فلاديمير بوتين حالياً في حملته العسكرية الكارثية في أوكرانيا، لم يكن لأحد أن يتوقّعه له من الخبراء والسياسيين في أرجاء المعمورة، سواء أكانوا أصدقاءه وحلفاءه أو خصومه وأعداءه. في البدء، وقبل أيّام قليلة فقط من موعد “العمليّة الخاصة” في 24 شباط الماضي، وعلى الرغم من حشد عشرات آلاف الجنود على الحدود مع أوكرانيا، بقي الرهان على عقلانية الرجل وبراغماتيّته، وحساباته الدقيقة في الأزمات الداخلية التي تخطّاها، والحروب الخارجية التي خاضها مباشرة أو بالواسطة، على الرغم من سابقة اجتياح شبه جزيرة القرم عام 2014، وضمّها إلى روسيا (14% فقط من خبراء العلاقات الدولية توقّعوا ذلك الاجتياح في استفتاء ضمّ 905 منهم بين 24 و27 شباط عام 2014).

 

خلل عقلي أم فرصة؟

لكن بمجرّد نزول قوات المظلّيّين في مطار هوستوميل Hostomel قرب كييف في صبيحة 24 شباط 2022، أي بعد ثماني سنوات كاملة من الاجتياح الأول، بدت المفاجأة صادمة. فالصورة التي نجح  بوتين في تسويقها عن نفسه، منذ الإطاحة بسلفه الرئيس السابق بوريس يلتسين، نهاية 1999، لم تكن سوى تمويه وتضليل عن الوجه الحقيقي الذي ظلّ خافياً لسنوات طويلة. وثمّة احتمال آخر، ما زال يتردّد في أذهان المحلّلين، وهو أن يكون الرئيس الروسي قد تعرّض لارتكاس ما في تفكيره العقلاني لسبب أو لآخر، وراحوا يبحثون في السيناريوهات: (مرض عُضال شوّش التفكير لديه، أو خوف من اقتراب الأجل قبل تنفيذ الأحلام الإمبراطورية وقد شارف على السبعين، أو لمحه فرصة تاريخية في لحظة ضعف اعترت الغرب، وبانت لديه، فاعتبرها سانحة لا يمكن تعويضها).

الفارق بين بوتين وصدّام، أنّ الثاني كان يدير دولة اشتراكية على النمط الستالينيّ

في الإطار التحليليّ النمطي لشخصية بوتين، بذلت الاستخبارات الأميركية جهداً غير مسبوق، لتسريب معلومات دقيقة للعالم بأسره قبيل الغزو، عن الحشود الروسية حول أوكرانيا: أعداد الجنود، صنوف الأسلحة، أماكن الانتشار، أهداف الغزو، محاور الهجوم، من أجل تنشيط العقل الاستخباري الحذر لدى بوتين، وإخراجه من العتمة المظلمة التي اعتاد التخطيط فيها، وتسليط الضوء الكثيف عليه وكشف ما يفكّر فيه، بهدف ردعه عن المضيّ في ما نواه. لكنّه مع ذلك كلّه، قام بآخر عمليّة تضليل فاشلة من حيث المآل، حين نفى نيّته غزو أوكرانيا، ثمّ حاول تنفيذ انقلاب مفاجئ في كييف. فلمّا فشل الانقلاب، تورّط في حرب طويلة لم يخطّط لها أصلاً، فتدحرجت كرة النار، ولن تتوقّف حتى النهاية المحتومة. ومع أنّ بوتين يشهد الانتكاسات الميدانية المتعاقبة (كييف، خاركيف، لوهانسك، خيرسون)، وتعاظم قوة الجيش الأوكراني بالدعم الغربي المتواصل له، لكنّه غير قادر سياسياً على التراجع، وهو غير قادر أيضاً على تحقيق النصر العسكري.

 

طريق الموت الصدّامي

هل يمكن مقارنة بوتين بالرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي اجتاح الكويت في 1 آب عام 1990، في لحظة انفعالية غير عقلانية، رافضاً كلّ الوساطات العربية والدولية للانسحاب وتجنّب الكارثة، متفرّجاً على مئات آلاف الجنود الأميركيين وحلفائهم وهم يحتشدون في المملكة العربية السعودية طوال أشهر (من 7 آب 1990 إلى 17 كانون الثاني عام 1991) تحت اسم درع الصحراء، قبل أن تشنّ الولايات المتحدة عاصفة الصحراء التي استمرّت 43 يوماً.

وفقط قبل يوم أو اثنين من تحرير الكويت، قرّر صدّام الانسحاب من جانب واحد، فتعرّضت القوافل العسكرية للدمار الشامل في ما سُمّي حينذاك طريق الموت؟

 

تشابهات ومفارقات

ثمّة تشابهات عدّة تدعو إلى عقد المقارنة بين الرجلين مع فوارق على علاقة بالجغرافيا والتاريخ والديمغرافيا كما المميّزات الشخصية. فالاثنان يختصران الدولة التي يحكمانها بشخصهما.

– كلّ واحد منهما يظنّ في نفسه قائداً تاريخياً مكلّفاً بمهمّة تاريخية، بنرجسيّة عالية قوامها الأنانية والغرور والتعالي، تريد تحقيق المجد لبلده، وله بالدرجة الأولى. قاعدة الحكم لديهما هي الولاء الشخصي لهما. يتخطّيان السلسلة التراتبية للقيادة والتحكّم في كلّ القطاعات. يتدخّلان في قيادة الجيوش وإصدار الأوامر مباشرة، مع أنّهما لم يدخلا كلّيّة عسكرية، ولا يمتلكان أيّ خبرة ميدانية.

– البدايات متشابهة إلى درجة كبيرة: طفولة صعبة (عاش صدّام طفولته يتيم الأب، وعانى من قسوة زوج أمه. فيما كان بوتين طفلاً بائساً ومهمَلاً في كنف أسرة فقيرة. ومن دون سند حقيقي من الأسرة والأقارب، اضطرّ إلى الدفاع عن نفسه في الأزقّة، وانعكس ذلك ضياعاً في المدرسة). عاش الاثنان فتوّة شقيّة، ثمّ حظيا بمن يرعاهما مبكّراً. تشرّب صدّام فكرة القومية العربية تحت رعاية خاله خير الله طلفاح (توفّي عام 1993). أضحى صلاح الدين الأيوبي مثاله، وهو تكريتيّ مثله. بوتين نشأ في سانت بطرسبورغ (لينينغراد بعد الثورة البلشفية) حاضرة القياصرة، وشعر ببؤس الحياة بعد الأهوال التي مرّت بها المدينة خلال الحرب العالمية الثانية. وكان تائهاً خلال دراسته الابتدائية، لكنّ معلّمته فيرا غوريفيتش Vera Gurevich في الصف السادس الابتدائي، اهتمّت به وأبعدته عن الشوارع. درس القانون، وانضمّ إلى الاستخبارات السوفييتية KGB، وشهد انهيار الاتحاد السوفييتي، وأصبح حلمه استرداد مجد القياصرة. انضمّ صدّام إلى صفوف حزب البعث، وكان ناشطاً في خلاياه السرّية. شارك في محاولة اغتيال الرئيس عبد الكريم قاسم عام 1959 وفشل، ففرّ إلى سوريا ثمّ إلى مصر، حيث درس الحقوق من دون أن يُكملها.

كلّ واحد منهما يظنّ في نفسه قائداً تاريخياً مكلّفاً بمهمّة تاريخية، بنرجسيّة عالية قوامها الأنانية والغرور والتعالي، تريد تحقيق المجد لبلده، وله بالدرجة الأولى

صعود إلى السلطة

– كان الصعود الصاروخي لكليهما في مراتب السلطة، بدعم من نافذين. فقد نال صدّام الاهتمام من ميشال عفلق (توفّي 1989)، لكنّ مساره كان أبطأ بكثير ومليئاً بالمخاطر. نفّذ البعث انقلابين قبل الوصول إلى السلطة عام 1968. وأسّس صدّام لجنة أمنيّة حزبية، وكان مسؤولاً عن التحقيقات، قبل أن يصبح مسؤول الأمن القومي، فنائب رئيس مجلس الثورة، ونائب الرئيس أحمد حسن البكر (توفّي 1982) على مدى عشر سنوات.

أمّا تدرُّج بوتين في السلطة فكان أسرع بكثير. فحياته في الاستخبارات كانت قصيرة ما بين 1985 في دريسدن Dresden بألمانيا و1991 حين رُقّي إلى رتبة ليوتنانت كولونيل، بعد عام من عودته إلى لينينغراد. ثمّ توالى صعوده، نائباً لعميد الجامعة، ومستشاراً لمحافظ المدينة آنذاك، أناتولي سوبشاك Anatoly Sobchak، وكان الأخير طامحاً إلى رئاسة روسيا. ثمّ أصبح نائبه. انتقل إلى موسكو عام 1996، فأدار الأملاك الرئاسية. وفي العام التالي، أضحى نائب رئيس فريق الكرملين. وفي عام 1998، تولّى منصب رئيس جهاز الأمن FSB، وريث KGB. وبعد سنة، احتلّ موقع النائب الأوّل لرئيس الوزراء، فرئيس الوزراء. وفي 31 كانون الأول 1999، أصبح الرئيس الفعليّ لروسيا بعد استقالة يلتسين. وفي آذار 2000 فاز في الانتخابات الرئاسية، واستمرّ في موقعه ولايتين حتى عام 2008. وضع مكانه صديقه ديمتري مدفيديف Dmitry Medvedev حتى عام 2012، وتولّى هو رئاسة الوزراء. ثمّ عاد إلى الرئاسة بعد تمديد الولاية الرئاسية وتعديل الدستور.

– الفارق بين بوتين وصدّام، أنّ الثاني كان يدير دولة اشتراكية على النمط الستالينيّ. أمّا بوتين، فكان يدير دولة كفرت بالاشتراكية، وباتت تتبع المثال الغربي الديمقراطي، فكان عليه مجاراة الرأي العامّ، والتلاعب بالنظام من داخله.

– كان صدّام حذراً ومراوغاً مثل بوتين في بداية حكمه، إلى أن انقلب متهوّراً في سنواته الأخيرة. وكمعدّل عام، سيظهر بوتين أكثر حذراً وعقلانية، وصدام أكثر جرأة وتهوّراً. لكن مع تفحّص السيرة الذاتية لكليهما، وبالعودة إلى التحليل السيكولوجي لشخصيّتيهما، فستكون المفارقة مختلفة.

 

صدّام البراغماتيّ ليس مجنوناً!

حسب المحلّل النفسي الأميركي جيرولد بوست Jerrold Post (توفّي عام 2020)، الذي عمل مع الاستخبارات الأميركية المركزية (CIA) على مدى 21 عاماً، وأسّس مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسي Center for the Analysis of Personality and Political Behavior، وكان مديراً له، فإنّ وصف صدام حسين، بأنّه “مجنون الشرق الأوسط” غير دقيق، لكنّه خطير أيضاً. فبهذا الاعتبار، (والتحليل عام 2002 قبل أشهر من غزو العراق في العام التالي)، يمكن تضليل صنّاع القرار، ودفعهم إلى الاعتقاد بأنّه لا يمكن التنبّؤ بسلوكه في حين أنّه ليس كذلك في الواقع. ففحص سجلّ صدّام على مدى السنوات الأربع والثلاثين الفائتة، يفيد أنّه يحسب الأمور بحكمة، وليست سياساته لاعقلانية بأيّ حال من الأحوال، بل هو خطير إلى أقصى الحدود.

أمّا الصحافي الفلسطيني سعيد أبو الريش (توفّي عام 2012)، الذي عمل مع النظام العراقي في سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، في تسهيل صفقات الأسلحة مع الدول الغربية، بعدما تبيّن لصدّام حسين، عام 1975، أنّ الاتحاد السوفييتي لا يرغب بتزويده بمقاتلات حديثة الطراز، فيقول في كتابه “صدّام حسين سياسات الثأر Saddam Hussein The Politics of Revenge” (2000): “يجب الموازنة بين دور صدّام وسمعته من جهة، ورغبات الشعب العراقي التي لم تتحقّق، واعتقادهم التاريخي المبرَّر بأنّهم حُرموا من حقّهم في استثمار إمكانات أرضهم، وأن يكون للعراق مكانة بين الأمم الحديثة، من جهة أخرى. بعبارة أخرى، قد يكون صدّام كفرد متميّزاً، وحتى شرّيراً، لكنّه أيضاً ابن حقيقي للعراق. حتى استعماله العنف لتحقيق أهدافه، ليس صفة شخصيّة بحتة، بل هي سِمة عراقية تاريخية غير مستحَبّة”. ويضيف: “ليس صدّام حسين أوّل ديكتاتور في العراق، ومن غير المحتمل أن يكون الأخير… وإذا أُتيحت الفرصة، فإنّ كلّ عراقي عانى من حكم صدّام سيسعى لتحقيق هدف صدّام المتمثّل في إقامة عراق موحّد وقوي على طريقته الخاصّة”.

كان الصعود الصاروخي لكليهما في مراتب السلطة، بدعم من نافذين

ربّما يتمسّك صدّام بشدّة بأفكاره ومخطّطاته، فإذا واجه مقاومة أوّليّة، فسوف يكافح مقتنعاً بصحّة آرائه، كما يقول المحلّل الأميركي لشخصيّة الزعماء، جيرولد بوست. لكن إذا أثبتت الظروف أنّه أخطأ في التقدير، فهو قادر على عكس المسار. هو لا يتخلّى عن حلمه أبداً. ينتظر إلى أن تتغيّر الظروف، ثمّ يضرب مرّة أخرى. بدلاً من أن يعترف بالخطأ، يتكيّف مع موقف ديناميكي. هذا ما فعله مع إيران الشاه وإيران الخميني، ومع الأكراد، ومع الكويت. وكان مستعدّاً للتفاهم حتى مع الولايات المتحدة عام 2002، لولا أنّ إدارة بوش الابن كانت قد صمّت آذانها عن أيّ وساطة.

 

بوتين رجل بلا وجه

أمّا فلاديمير بوتين، فهو شخص اعتاد العمل في العتمة، وأدمن البقاء في المنصب الثاني لمدّة سنوات، حتى إنّه قام بتبادل الكراسي مع صديقه مدفيديف، حتى قال بعض المراقبين إنّ بوتين لا وجه له، ولا جوهر، ولا روح. إنّه رجل من العدم، ويمكن أن يبدو على أنّه أيّ شيء لأيّ شخص. وذلك بحسب تحليل لشخصيّة بوتين صدر في “فورين بوليسي Foreign Policy”، في 15 شباط عام 2013، أي قبل عام من أزمة القرم والدونباس في أوكرانيا. ويتابع التحليل أنّ بوتين هو نتاج بيئته، وصعوده إلى موقع الرئاسة الروسية في 1999-2000 كان نتيجة جزئية لإجماع النخبة على أهميّة إعادة النظام إلى الدولة بعد عقد من الأزمات الداخلية والإذلال الدولي. هو إذاً انعكاس للمزاج القومي. ومنذ أيّامه الأولى في الكرملين، سعى بوتين إلى تحقيق هدف استعادة الدولة وتقويتها باكتشاف القيم الأساسية لروسيا، وتنشيط تقاليدها التاريخية، والتخلّي عن النَّسْخ الأعمى للنموذج الغربي. عزّز إحياء الكنيسة الأرثوذكسية الروسيّة. وأقام روابط مباشرة بين الرئاسة الروسية الحديثة والقيصرية الروسية ما قبل الثورة. جعل من أولويّاته سداد ديون الدولة الهائلة التي تراكمت في زمن غورباتشوف ويلتسين، على مدى عقدين من الزمن. خلص بوتين إلى أنّ هذه الديون أسقطت الاتحاد السوفييتي، وكادت أن تسقط الدولة الروسيّة الوليدة في التسعينيّات. شرع أيضاً في بناء احتياطيات وطنية ضخمة من كلّ شيء: النفط والغاز والمنتجات البترولية المكرّرة، إلى علف الماشية والزيّ العسكري والخيام والأدوية والمولّدات. وذلك لتكون لدى روسيا الموارد اللازمة لتحمّل أيّ كارثة طبيعية أو حرب. أخيراً، أنشأ احتياطيات مالية ضخمة تحسّباً للأزمات الاقتصادية المستقبلية (آخرها تحويل بعض احتياطيات روسيا من العملات، لكن المتقلّبة، إلى سبائك ذهب).

إقرأ أيضاً: بوتين وصدّام… والفخّ

كان بوتين يستعدّ للسيطرة على أوكرانيا منذ سنوات، لإرجاع الفرع إلى الأصل، كما قال مرّة صدّام حين اجتاح الكويت. ارتكب الخطأ القاتل نفسه. وقد يذهب ضحيّة حلمه غير العقلاني.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…