ها قد عاد أيلول وعاد معه كلّ شيء.
السنوات مجرّد أرقام، ولم يتغيّر شيء. ما زالت الأمور على حالها. فقط بعض الخطوط التي رسمها الزمن على وجوهنا. هذه الخطوط فقط تغيّرت .
أمّا هوَ فما يزال هنا.
نابضاً قلبه كما أيلول بالأمل والحياة، بالنضال، بالثورة، فالنهاية لم تحِن بعد، ولن نستسلم.
عاد أيلول حاملاً ذكرى “مارشال القلوب” سعد صايل الذي فضّل أن يموت واقفاً على أن يحيا راكعاً.
…
شذرات سيرة ومسار
في 27 أيلول 1982 استشهد الرجل الرابع في منظمة التحرير الفلسطينية بعد كلّ من ياسر عرفات (أبو عمار)، صلاح خلف (أبو إياد)، خليل الوزير (أبو جهاد). بعد توقّف قلبه إثر نزيف شديد تعرّض له بسبب إصابته على أيدٍ صهيونية الانتماء في لبنان، عقب إصرار إسرائيل على جعله ضمن الدائرة الأولى للاغتيال.
“من لم يعش حصار بيروت سنة 1982، ولم يزامل أبا الوليد في إدارته شبه الخفيّة للوضع المقاوم الصلب، فكأنّه لم يعش محطة من محطات النضال العربي الجميل”.
فلسطينياً، عروبيّ الهويّة، ثائراً خطّ دروبه، مقاوماً في الدول العربية متخطّياً حدود الدولة والمذهب والدين. فالمقاومة كالشمس لا تُحدّ، تنمو في النفوس الحرّة التي تأبى الاستعباد.
وُلد في فلسطين، حيث ترعرع على جذور الحرّية ونمت في روحه مع نموّ جسده، ثمّ التحق بالكلّية العسكرية الأردنية. كتب مسيرته العسكرية بكفاءته العالية وقدرات استثنائية، وانضمّ فيما بعد إلى صفوف الثورة الفسطينية عام 1970. وبعد انتقال قوات منظمة التحرير إلى لبنان، انتُخب عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، ثمّ عضواً في اللجنة المركزية لحركة فتح عام 1980.
مؤمناً بأنّ الحياة موقف وكلمة، ومهما اشتدّت الظروف يظل الإصرار أقوى والحقّ أقوى. ومهما كان الطريق مظلماً لا بدّ من أن نحترق لنشعل ثورة كالجمر، ثابتة وعميقة كالحبّ.
شارك سعد صايل في قيادة عمليات المقاومة المتحالفة مع قوات الحركة الوطنية اللبنانية ضدّ الجيش الإسرائيلي إبّان اجتياحه لبنان وحصار بيروت صيف العام 1982، ولُقّب “مارشال بيروت”.
“مفاوض يثير الإعجاب بدقّته ومهارته وحسن أدائه وقدرته على التنظيم”، تلك كانت شهادة فيليب حبيب الديبلوماسي الأميركي من غير أبناء جلدته. لقد خدم قضيّة شعبه أثناء مفاوضاته في آب 1982 على انسحاب المقاومين الفلسطينيين من بيروت.
بين فلسطين، الأردن، وبيروت، حمل القائد سعد صايل مشعل الثورة والحرّية الكاملة، فليس ثمّة حرّيّة جزئية: إمّا أن تكون حرّاً أو لا تكون. والناس في أوطاننا صنفان: الصنف الأوّل هم الأحرار يناضلون من أجل الحرّية ويؤمنون بحقّهم وحقّ أوطانهم بها. وهذا الإيمان وحده هو السلاح الذي يكتب التاريخ ويخطّ قبلة الصلاة. أمّا الباقون فهم عبيد أنظمة يطالبون بتحسين شروط العبودية ويقبعون تحت قيود والخوف ورهبة الظلام من عتمة الرحم حتى ظلام القبر.
عندما تحيا الحرّية في روحك وأنفاسك تدفعُ ثمنها باهظاً. هكذا مضى بلا توقّعات كاسراً حدود الأزمنة والأمكنة ليكتب بدمائه تاريخاً عظيماً عن “سيرة حياة”.
خطّ طريق الثورة الخالدة وهو متيقّن أنّ العدوّ جبان، والجبناء لا يغيّرون تاريخ الشرفاء. يمارسون ألعابهم في الظلام، يتصوّرون أنّ الثورة قابلة للهزيمة. لكنهم لم يعلموا أنَّ الثورة ليست مزروعة على الشفاه لنثرثر عنها، بل هي مزروعة في قلوبنا لنموت لأجلها.
ومهما قتلوا منّا، بالرصاص… بالغدر… بالسجون… بالحرب والدمار، لم يتيقّنوا أنّ الموت لنا حياة، وعند الموت تعرّج الأرواح فور سقوطها إلى عرش الربّ، فلا تسكن القبور كباقي الأموات، ولا تنتظر رجاء القيامة. ومهما اختلفت لغتهم لن تثنينا عن الصمود. ففلسطين ما تزال فتيّة، قويّة، شابّة في مقتبل العشرين لن تشيخ أبداً ولن يتعبها النضال.
إقرأ أيضاً: عفيف طبّارة والثقافة الإسلاميّة في لبنان
ظنّوا أن قتله سيردعنا، سيحبط عزيمتنا. كتبوا دماءه بأبجديّة غدرهم. قتلوه ثائراً أنار بدمه درب آلاف الثوّار.
أغبياء! لم يعلموا أنّ صباحات دفن شهدائنا توقظ أرواحنا على أمل، على حبٍّ، وعلى عشق أكبر لفلسطين، للهويّة، للنضال، وأنّ أجسادنا المُكفّنة بذور تنبت شقائق النعمان.
أغبياء! لم يعلموا أنّنا سنبقى نردّد كلامك أيّها القائد سعد صايل ونموت ليعيش شعبنا وتحيا فلسطين.