لطالما برز المشروع النوويّ الإسرائيليّ كمادّة طعن في مصداقيّة مقاربة المجتمع الدولي للملفّ النووي الإيراني، ولفكرته عن شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية. ولطالما رُفع دليلاً على ازدواج المعايير التي يعتمدها الغرب بعدما ساهم، عبر فرنسا وبريطانيا والنروج ولاحقاً الولايات المتّحدة، في تعزيز البرنامج النووي الإسرائيلي.
تفيد هذه المناظرات أهل السياسة وترفد مناكفاتهم بما يكفي من تناقضات تُوظّف في سياق تسجيل النقاط لا أكثر ولا أقلّ.
المعادلة النووية الإقليمية
السؤال الأهمّ الذي تستدعيه الاحتفالية الثانية باتّفاق السلام الإبراهيمي، بين إسرائيل وكلّ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان، هو لماذا يكبر الهاجس من إيران النوويّة، ويسهل عقد السلام مع إسرائيل النوويّة؟
لماذا السلام مع إسرائيل والتوتّر مع إيران، ولو غلّفته مجاملات دبلوماسية هنا أو هناك؟ لماذا القلق من دولة على طريق السلاح النووي هي إيران، والاطمئنان لدولة نووية منذ أكثر من ثلثَيْ قرن، هي إسرائيل، ولو لم تعلن ذلك صراحةً.
ليس السلاح إذن هو معيار صياغة العلاقات وصناعة التوتّر أو بناء السلام، بل مَن يمتلك قرار السلاح
تعتمد إسرائيل سياسة الغموض حول برنامجها النووي، الذي بدأته عام 1957، واكتشفته واشنطن عام 1960، ونجحت تل أبيب في تسويق الحاجة إليه ولحمايته بعد حرب العام 1967، حين هاجمتها جيوش مصر وسوريا والعراق والأردن، وأنتجت منه سلاحاً نوويّاً بين الأعوام 1966 و1968، وعقدت بشأنه اتّفاقاً بتبنّي سياسة الغموض عام 1969، خلال اجتماع بين الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون ورئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير بحضور وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر. ولم توقّع إسرائيل على اتفاقيّة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية إلى اليوم.
بيد أنّ كلّ الغموض الذي تحيط به إسرائيل برنامجها النووي، لا يلغي حقيقة التعاطي معها كدولة نوويّة. كما أنّ كلّ تطمينات إيران حول الطبيعة السلميّة لبرنامجها النووي لا تلغي هي الأخرى التعاطي مع إيران كدولة طموح نوويّ عسكري.
النووي وأهدافه المختلفة
لماذا إذاً استنفار دول المنطقة، ولا سيّما الدول العربية والمسلمة، حيال إيران شبه النوويّة، والارتياح للعلاقة بإسرائيل النووية من دون أن يكون برنامجها سبباً لأيّ تردّد أو توجّس؟
الجواب المباشر أنّ المشكلة ليست في السلاح وطبيعته بل في مَن يملك السلاح وقرار السلاح. إنّها مشكلة العقل السياسي الذي يقف خلف السلاح أيّاً كان نوعه.
أجبرت سياسة الغموض الإسرائيلية حكومات تل أبيب على أن لا توظّف إمكانياتها النووية في أيّ سجال أو تهديد أو صراع مع أيّ من دول المنطقة. ونجحت إسرائيل ضمناً في إقناع أوسع مروحة من الدول والحكومات بالوظيفة الدفاعية للسلاح النووي، وبصفته ملاذاً أخيراً لا تلجأ إليه إلا إن جوبهت بخيارات تهدّد وجودها. في المقابل فإنّ الطبيعة الثورية للنظام الإيراني وشهيّته لتغيير التركيبة السياسية في محيطه العربي والخليجي، والتهديدات المتعاقبة بإزالة إسرائيل من الوجود، معطوفة على الإنكار الإيراني للهولوكوست، والمثابرة على توظيف الأوراق المذهبية والميليشيات غير الشرعية في العلاقة مع دول الجوار، تسمّم أيّ علاقة محتملة مع إيران، أيّاً تكن إمكانات إيران العسكرية، فكيف بالأحرى، إن كان الشكّ يعتري الجميع بأنّ هذا الخصم يسعى لامتلاك سلاح دمار شامل، لتوظيفه أو يوظّف وهجه في لعبة العدوان على جواره.
إسرائيل، خارج حيثيّات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، هي دولة ستاتيكو، تلتزم كامل شروط العلاقات الدولية، ولا تمارس في سياستها الخارجية إلّا ما تمارسه الدول جميعاً من سياسات تقوم على معيار المصلحة، في حين أنّ إيران دولة ذات مشروع تغييري لمحيطها، وحكومة شبه مستقيلة من كلّ شروط ومعايير العلاقات الدولية.
ولئن راجت في أوقات مختلفة نظريات غربية تقول إنّ حصول إيران على السلاح النوويّ، قد يساعد على تحقيق الاستقرار الإقليمي والدولي، من خلال خفض الاختلالات في ميزان القوّة العسكرية في الشرق الأوسط، وجب التنبّه إلى أنّ العقيدة المذهبية الإيرانية لا تترك مجالاً لمثل هذا الترف الفكريّ. إيران ليست الصين الماويّة، التي تراجع منسوب عدوانيّتها كثيراً بعد الحصول على أسلحة نوويّة في عام 1964. وإيران لا يُتوقّع منها أن تصبح أكثر حذراً، بمثل ما صارته كلّ من الهند وباكستان بعد تحوّلهما إلى دولتين نوويّتين.
عقيدة إيران القياميّة
فبالنظر إلى العقيدة المذهبية التي تتبنّاها الحكومة الإيرانية، يلاحظ المفكّر الراحل برنارد لويس، أنّ فكرة الدمار الشامل ليست فكرة رادعة عن استخدام السلاح النوويّ، بل فكرة تحرّض إيران على تسريع الدمار وتعميم الخراب كمقدّمة ضروريّة لظهور المخلّص، الإمام المهديّ المنتظر (حسب السرديّة الاثني عشريّة)، كي “يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً”.
هذا البعد القياميّ في عقيدة الدولة الإيرانية كدولة تمهيد لظهور الإمام الغائب، لا يترك فسحة للتفكير بالرغبات وحسن الظنّ، حيال الخيارات التي يمكن أن تقدم عليها “حكومة صاحب الزمان”. كما أنّ تجربة النظم الشموليّة مع أسلحة الدمار الشامل، تحفل بقرارات مجنونة استُخدمت فيها هذه الأسلحة لقمع الاحتجاجات الداخلية، كما حصل مع سوريا والعراق عبر توظيف الأسلحة الكيمياوية ضدّ الأكراد والسوريّين.
في المقابل فإنّ إسرائيل دولة ديمقراطية ودولة مؤسسات تُدار بمستوى جدّي من العقلانيّة السياسية، على الرغم من كلّ اجتياحات اليمين المتديّن للفضاء السياسيّ فيها. حتى في ذروة العداء لها، لم تشعل حيازة إسرائيل لسلاح نوويّ، سباق تسلّح في المنطقة. لا بل إنّ مصر أنور السادات، خاضت حرباً ضدّ إسرائيل النووية عام 1973 من دون أن يخطر في ذهن قادتها للحظة أنّ إسرائيل يمكن أن تستخدم قنابلها النووية ضدّ مصر.
إقرأ أيضاً: الخطر الإيراني فكري وليس نووياً
دول كثيرة في المنطقة تثق بعقلانيّة إسرائيل ولا تثق بالجنون العقائديّ لإيران. ليس السلاح إذن هو معيار صياغة العلاقات وصناعة التوتّر أو بناء السلام، بل مَن يمتلك قرار السلاح.
لهذه الأسباب جميعاً يبدو السلام مع إسرائيل ممكناً والسلام مع إيران بعيد المنال.