الفاتيكان والصين على طريق المصالحة.. تنازلات متبادلة

مدة القراءة 5 د

يوجد في الصين 12 مليون كاثوليكي ينتمون إلى الفاتيكان. في عام 1949 قامت الثورة الشيوعية في الصين. وفي عام 1951 قطع الفاتيكان علاقاته مع بكين على خلفيّة أنّ الثورة تنكر وجود الله وتتدخّل في الشؤون الداخلية للكنيسة. لم يقتصر الأمر على الكنيسة الكاثوليكية وحدها، لكنّه شمل جميع الكنائس والأديان الأخرى، ومن بينها الاسلام.

فقد حصرت الدولة الشيوعية في ذلك الوقت سلطة إدارة الشؤون الدينية بها وحدها، وتولّت هي منفردة اختيار العناصر الذين تطمئن إليهم من المنتمين إلى الأديان والكنائس المختلفة لإدارة هذه الشؤون باسمها وبمرجعيّتها.

 

مجلس كنسي سري

في عام 1959 عمدت الحكومة الشيوعية إلى إنشاء الهيئة الوطنية الكاثوليكية وعهدت إليها إدارة الكنائس التي كانت تابعة للفاتيكان. لم يعترف الفاتيكان بهذه الهيئة ولا بحقّ السلطة الصينية في الإشراف على الكنائس. وافق الفاتيكان فقط على الصلاحيّة الممنوحة حكوميّاً للكهنة المنضوين في الهيئة لإقامة الصلوات الكنسيّة، وذلك استمراراً لعمل الكنيسة.

في الوقت ذاته أنشأ الفاتيكان مجلساً كنسيّاً سرّيّاً من وراء ظهر الحكومة الصينية ليتولّى باسمه وبإشرافه إدارة الشؤون الكنسيّة.

حاول البابا الأسبق يوحنّا بولس الثاني، وخليفته بنديكتوس السادس عشر، معالجة الأمر مع الحكومة الصينية لكن من دون نتيجة. فالسلطات الصينية تعتبر أنّ الكنائس الصينية هي مؤسّسات وطنية. وتعتبر أنّ إدارتها هو شأن وطنيّ وحقّ من حقوقها السيادية. وعلى هذا الأساس تتمتّع الدولة بسلطة تعيين الكهنة وإدارة شؤونهم وليس أيّ جهة خارجية أخرى، حتى لو كانت الفاتيكان.

يعتمد البابا فرنسيس في مبادرته التصالحيّة الجريئة على سوابق تاريخية

لمّا رفض الفاتيكان تلك الإجراءات، طردت الصين السفير البابوي في عام 1951. ومنذ ذلك الوقت انقطعت العلاقات بين المرجعيّتين، الصين والفاتيكان. ولم تفلح مساعي التسوية في ردم الهوّة بينهما على الرغم من تعدّد المحاولات.

 

سابقة في تاريخ الكنيسة الكاثوثليكية

أمّا الآن فقد نجح البابا فرنسيس في فتح صفحة جديدة بين الفاتيكان وبكين، وفي ابتداع حلّ لأزمة تعقّدت مع مرور الوقت الطويل. بموجب هذا الحلّ أقرّ البابا مطلب الحكومة الصينية اختيار الأساقفة الصينيّين. وشكّل هذا الإقرار سابقة منذ عام 1951.

كان طبيعيّاً أن تلقى هذه الأزمة مَن يعارضها. وكان طبيعيّاً أيضاً أن يتزعّم هذه المعارضة رئيس الأساقفة في هونغ كونغ. ولذلك رفض البابا فرنسيس استقباله في حاضرة الفاتيكان عندما قدم إليها حاملاً مطالب المعارضة.

يعتمد البابا فرنسيس في مبادرته التصالحيّة الجريئة على سوابق تاريخية. ففي القرن السادس عشر أعطى البابا الملك الفرنسي حقّ تعيين كبار الأساقفة، والبابا بيوس السابع وقّع وثيقة مع نابليون بونابرت تمنحه سلطات مماثلة أيضاً.

 

بنديكتوس أيضاً تنازل للصين

قبل البابا فرنسيس، قدّم البابا السابق بنديكتوس في عام 2007 تنازلاً مهمّاً للصين يتمثّل في اعتراف الفاتيكان بالأساقفة الذين اختارتهم الدولة الصينية (وليس الفاتيكان). وكلّف في ذلك الوقت الكاردينال بارولين (وكان يومذاك مطراناً) برئاسة وفد للمفاوضات مع الحكومة الصينية.

يشغل الكاردينال بارولين اليوم منصب المستشار الأوّل للبابا فرنسيس منذ عام 2013، إضافة إلى كونه وزيراً لخارجية الفاتيكان.

أمّا ممثّل البابا فرنسيس في المحادثات مع الصين فكان المطران كلاديو ماري سللي. لقد أعطى البابا دفعة معنوية جديدة لهذه المحادثات عندما زار بنغلادش منذ عامين وأعلن من هناك أنّ التفاهم مع الصين هو في مصلحة الجميع، وأنّه يتمنّى أن تسوّى الأمور حتى يقوم بزيارة رسمية للصين. وإذا تمّ ذلك فسيكون أوّل بابا في التاريخ يزور الصين.

تعبيراً عن حسن النيّة، كانت الصين قد سمحت في عام 2014 لطائرة البابا بالتحليق في أجوائها عندما كان في طريقه إلى كوريا الجنوبية للقيام بزيارة رسمية لها.

لكن على الرغم من أهميّة مبادرة البابا فرنسيس التوفيقيّة، فإنّ أصواتاً معارضةً من داخل الفاتيكان ومن خارجه بدأت بالارتفاع، ذلك أنّ التسوية سوف تكون على حساب بعض القساوسة الصينيين الذين عارضوا مبدأ أن يكون لبكين دور في شؤون الكنيسة، وتمسّكوا بالتبعيّة المطلقة للفاتيكان وحده.

 

الفاتيكان يتحسب من الكنيسة الإنجيلية

أمّا لماذا اتّخذ البابا فرنسيس هذه الخطوة الجريئة، فإنّ الجواب يكمن في الأمر التالي، وهو أنّ الدراسات الكنسيّة تثبت أنّ عدد الكاثوليك في الصين لم يزِد عمّا كان عليه قبل خمسين عاماً. وعلى العكس من ذلك تسجّل الكنائس الإنجيليّة تضخّماً كبيراً في عدد أتباعها، سواء تلك التي تنطلق من الولايات المتحدة مباشرة، أو عبر كوريا الجنوبية. وتعاني الكنيسة الكاثوليكية الأزمة ذاتها في دول أميركا الجنوبية حيث يتضخّم عدد الإنجيليّين على حساب الكاثوليك، علماً بأنّ أميركا الجنوبية تُعتبر خزّان الكاثوليك في العالم.

إقرأ أيضاً: روسيا والصين في العقل الأميركي

إنّ كلّ ما يهمّ البابا فرنسيس الذي عُرِف عنه الانفتاح والتسامح في إطار الإيمان الكاثوليكي الشديد هو أن تؤدّي التسوية مع الصين إلى اعتراف الحكومة بشرعيّة المطارنة الثلاثين المؤيّدين للفاتيكان، الذين عزلتهم السلطات الصينية على خلفيّة هذا التأييد. ولتسهيل هذا الأمر وافق البابا من حيث المبدأ على الاقتراح الصيني بأن يختار رئيساً للأساقفة في الصين من بين ثلاثة مرشّحين تسمّيهم الحكومة الصينية، وهو إجراء يشكّل سابقة في التاريخ الحديث للفاتيكان.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…