انقضت اليوم أربعون سنة على اغتيال بشير الجميل (1947- 1982) مؤسّس القوات اللبنانية المسيحية المقاتلة، وقائدها في شطر من حروب لبنان الأهلية ـــ الإقليمية حتى اغتياله بتفجير مقرّها في الأشرفية بعد أسابيع ثلاثة على انتخابه رئيساً للجمهورية في 23 آب 1982. وفي غمرة الخراب اللبناني المتناسل، أقلّه منذ أكثر من سنتين، فيما يتغوّل سلطان حزب الله العسكري والأمنيّ والسياسي على الدولة اللبنانية، تغري المقارنة بين مسيرة الحزب الشيعي الخمينيّ وقائده الحالي أو أمينه العامّ حسن نصر الله، وبين مسيرة بشير الجميّل وقوّاته. والباعث على المقارنة هو النظرُ إلى مسيرتَيْهما والتفكير فيها على مدى زمني طويل، بدأت ملامحه الأولى ترتسم في لبنان غداة هزيمة حزيران 1967 العربية، واكتملت في السنوات الأخيرة: خراب المشرق العربي، ودخوله في حروب أهليّة – إقليميّة.
انقضت اليوم أربعون سنة على اغتيال بشير الجميل (1947- 1982) مؤسّس القوات اللبنانية المسيحية المقاتلة، وقائدها في شطر من حروب لبنان الأهلية ـــ الإقليمية حتى اغتياله بتفجير مقرّها في الأشرفية
استعملت بعض الأنظمة العربية العسكرية الاستبدادية الفلسطينيّين لخوض حرب بالوكالة عنها ضدّ إسرائيل، فأدّى ذلك إلى حرب أهليّة في الأردن، امتدّت إلى لبنان بعد حرب تشرين 1973 وخروج مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي.
زواج المتعة والثارات
يبدأ كتاب الصحافي والكاتب الفرنسي ألان مينارغ “أسرار حرب لبنان”، الذي يتألّف من حوالى ألف صفحة في جزءين، ويغطّي سنواتٍ أربع فقط من تلك الحرب المشرقيّة: 1980- 1984، وكُتِبَ وصدر بالفرنسية سنة 2004، ثمّ بالعربية سنة 2006، بمشهد في سيارة يقودها بشير الجميّل متوجّهاً إلى اجتماع خاصّ وشبه سرّي بمقرَّبيه من أركان “الجبهة اللبنانية” التي كانت تتصدّر في المناطق المسيحية قيادة الحرب على منظّمة التحرير الفلسطينية في لبنان، وحليفتها “الحركة الوطنية اللبنانية” اليسارية والعربية في مناطق المسلمين. عُقد الاجتماع في نهار من العام 1980، وكان هدفه التداول في خطط جديدة للحرب الأهلية – الإقليمية الدائرة في الديار اللبنانية. تتطوّر رواية مينارغ في اتجاهين أساسيّين متّصلين: علاقة بشير الجميّل السرّية، العسكرية والسياسية، بأركان في الجيش والاستخبارات الإسرائيليَّين، وسبلُ وصوله إلى منصب رئاسة الجمهورية، بعد طرد مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان.
أمّا طيف حزب الله فيبدأ ظهور نواته السرّية في الصفحات المئة الأخيرة من كتاب الصحافي الفرنسي. وُلدت تلك النواة من “زواج المتعة” بين الثورة الإسلامية الإيرانية الخمينيّة وسوريا الأسد، ومن رحم حروب لبنان المحليّة والإقليمية، ولّادة الحروب الأهليّة ومآسيها المدمّرة. وقد حصل ذاك الزواج تحديداً في سهل البقاع، بعد الفصل أو المنعطف الإقليمي الكبير لتلك الحروب “الملبننة”: الحملة العسكرية الإسرائيلية على لبنان، بتحالف سرّي مع قوّات بشير الجميّل، لاجتثاث مواقع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية ومعسكراتها من جنوب لبنان وصولاً إلى بيروت صيف 1982.
روى أحمد عيّاش (راجع “أساس ميديا” السبت 10 أيلول الجاري)، نقلاً عن السيد محمد حسن الأمين، أنّ مؤسّس الجمهورية الإسلامية، الإمام الخميني، قبل نجاح ثورته في إيران سنة 1979، كان يسعى إلى إيجاد منفى آخر له غير العراق، فاقترح عليه ياسر عرفات “استضافته” في سهل البقاع اللبناني، واستمهله كي يشاور حافظ الأسد في ذلك. وبعدما رفض الأسد قائلاً لعرفات إنّه لا يريد إغضاب أميركا، انتقل الخميني إلى باريس. والمعروف أنّ بعض الإيرانيين الخمينيّين، أمثال مصطفى شمران أول وزير دفاع في جمهورية الخميني الإسلامية، كانوا يتدرّبون ويدرّبون في حركة “فتح” ولهم حضورهم فيها بلبنان قبل الثورة الخمينيّة.
وربّما كان من الصعب على قوّات بشير الجميّل الشابّ وأركانه من مجايليه أن تشتدّ قوّتهم في حزب والده المكتهل، الكتائب اللبنانية، وأن تندفع القوات البشيريّة تلك الاندفاعة العارمة ويتصلّب عودها في مجتمع الحرب المسيحي، لولا الحرب نفسها و”زواج المتعة” السرّي البشيريّ مع أركان حرب الجيش الإسرائيلي. وكان الجميّل الشابّ، “الثوري” والعصابي، قد هدّد علناً في غمرة الحروب “الملبننة” بلجوئه إلى “التحالف مع الشيطان” (ويعني إسرائيل)، ثأراً وانتقاماً ممّا سمّاه “الاحتلال” الفلسطيني والسوري للبنان، ومن سكوت المسلمين اللبنانيين عن ذلك الاحتلال ودعمه. وهم كانوا يُعتبَرون منقوصي الوطنية اللبنانية في المخيّلة السياسية المسيحية العصابية الخائفة على لبنان، أقلّه منذ “اتفاق القاهرة” سنة 1968 الذي منح المنظمات العسكرية الفلسطينية المرابطة في لبنان حرّية العمل العسكري ضدّ إسرائيل، حتى سُمِّي جنوب لبنان بـ”فتح لاند”، وصارت قوات منظمة التحرير الفلسطينية تُسمّى “جيش المسلمين في لبنان”.
إقرأ أيضاً: المتمرّد (2): فاوض الفلسطينيين باسم بشير… وكتب خطاب قسمه
على منوال يشبه المنوال البشيريّ القوّاتيّ في بعض وجوهه، كان يستحيل أن يعيش وليدُ “زواج المتعة” بين نظامَيْ الخميني والأسد في لبنان، أي حزب الله، وأن ينتشر في ديار الشيعة اللبنانيين، لولا ضيق أهاليها بويلات الحروب المدمّرة (1968 – 1982) وتعرّضهم للتهجير والشتات والضياع مرّات متتالية. ومن رحم خراب ديارهم وُلدت حاجة إلى ثأر شيعي مثلّث، جسّدته حركة أمل في البداية: من المنظّمات الفلسطينية، ومن هوان الشيعة وضِعَتِهم في مراتب “الصيغة اللبنانية”، ومن الاحتلال الإسرائيلي وتعاون قوات بشير الجميّل المسيحية معه. ومن مثلّث الثارات الشيعية هذه ولَّدَتْ الخمينيّة حزب الله من مجتمع الخراب والتهجير الحربيّ المتناسل.
في الحلقة الثانية: قوات بشير الجميّل ومقاومة حزب الله: انتفاضة جيلين “ثوريَّين”