طرابلس: استغلال جرائم اجتماعية لـ”دعشنة” المدينة

مدة القراءة 7 د

تشير محاضر التحقيقات لدى مخابرات الجيش اللبناني إلى أنّ الجريمة التي هزّت مدينة طرابلس يوم الجمعة الماضي كان دافعها “التشليح” حصراً. فغروب ذاك النهار، حضرت مجموعة من أربعة أشخاص، ثلاثة منهم ملثّمون، على متن درّاجات نارية إلى قبالة محلّ هواتف خلويّة قرب القصر البلدي، صاحبه محمود خضر.

وبحسب معلومات “أساس”، فقد دخل خالد عبد المجيد المحلّ وحيداً بهدف السرقة، وكان في يده قنبلة يدويّة لم ينزع صمام أمانها. كان في المحل، إلى صاحبه ثلاثة موظّفين: محمد وعمر الحصني وفؤاد أبو حيدر. لكنْ حدث ما لم تكن تتوقّعه مجموعة السطو، إذ فوجئوا بإطلاق نار من داخل المحلّ على خالد الذي قتل فوراً.

تشير محاضر التحقيقات لدى مخابرات الجيش اللبناني إلى أنّ الجريمة التي هزّت مدينة طرابلس يوم الجمعة الماضي كان دافعها “التشليح” حصراً

سارعت المجموعة إلى إطلاق النار بغزارة على زبائن المحلّ، ورمت بعض قنابل يدوية لم تنفجر، فقتل الأخوان حصني، وأُصيب محمود خضر، وأبو حيدر الذي كان يحاول الفرار. ثمّ غادر الملثّمون الثلاثة المنطقة مطلقين النار في الهواء لبثّ الرعب في قلوب العابرين. ونُقل خضر إلى المستشفى، لكنّه توفي بعد ساعات قليلة.

نتيجة تحقيقات مديرية المخابرات، وتحليل تسجيلات الفيديو التي تجمّعت لديها، قامت بمداهمات أفضت إلى توقيف اثنين من الملثّمين الثلاثة، وآخرين ضالعين في ما حصل. ظل أحدهم فارّاً وتعمل المخابرات على مطاردته بعد تثبّتها من هويّته عقب اعترافات زميلائه.

وتطابقن تحقيقات المخابرات مع بيانَيْ قيادة الجيش عن الحادثة. فأين “داعش” الذي أسهبت تقارير إعلامية في حديثها عنه؟ ولماذا اتّخذت الجريمة أبعاداً طائفية كادت أنْ تفجّر فتنة؟ فلو كانت الجريمة عملاً إرهابياً، كما زعمت أكثر الروايات، لما كان أحد “الإرهابيّين” ليدخل المحلّ، ولكانت المجموعة اكتفت بإطلاق النار ورمي القنابل من خارجه، خصوصاً أنّ مقتل أحد المهاجمين هو الذي كشف المجموعة كلّها.

“الدعشنة” والإسلاميّون

لا يمكن فصل هذه الجريمة عمّا سبقها وتلاها من جرائم تحدث في طرابلس، كما في غيرها من المدن اللبنانية. لكنّ تقاطعها في توقيت حصولها مع مجموعة عوامل جعلها تأخذ مساراً آخر. فقبل الجريمة بأيّام كانت قضية السجون تشغل الرأي العامّ اللبناني، بسبب الاكتظاظ الهائل وكثرة الوفَيَات بين المسجونين بسبب فقدان الرعاية الطبية وتفشّي المخدّرات في السجون. وعندما طرح وزير الداخلية تحت ضغط المنظّمات الدولية مشروع قانون يخفض السنة السجنيّة، استثنى منه ذوي الأحكام بالمؤبّد والإعدام، وبينهم الإسلاميون، الأمر الذي أعاد قضيّتهم إلى الواجهة. ومع أنّ حركة الاعتراض داخل السجون أتت من غيرهم من المحكومين بالمؤبّد والإعدام، بدا المشروع كأنّه يستهدف الإسلاميّين.

مقابل التحرّكات التي قامت بها هيئة علماء المسلمين، وضغط دار الفتوى على رئيس الحكومة والنوّاب السُنّة لإقفال هذا الملفّ وعدم المتاجرة به سياسياً، بدأ ضغط مضادّ لإبقاء هذا الملفّ بازاراً ومفتوحاً. كانت البداية مع قيام جهاز أمن الدولة بتعذيب السوري بشار عبد السعود لإجباره على الاعتراف بانتمائه إلى “داعش”، وهذا ما حصل. لكنّ وفاته تحت التعذيب أوقع الجهاز في شرّ تحقيقاته.

تلت ذلك تسريبات إعلامية عن اعتقال الجيش مجموعة إرهابية في البقاع تنتمي إلى “داعش”، وتُدار من أميركا اللاتينية، وكانت تخطّط للهجوم على بعض مراكز الجيش. لم يصدر عن الجيش أيّ بيان بهذا الصدد، لكنّ التسريب الإعلامي أدّى المطلوب. ثمّ وقعت جريمة طرابلس مانحةً كلّ من يريد المتاجرة بملفّ الإسلاميّين ورقة ثمينة لتبرير استثنائهم من أيّ خفض للسنة السجنيّة، وجعل العفو العامّ أمراً مستحيلاً.

لم يتأثّر حزب البعث إلّا بجريمة طرابلس، وبالتحديد مقتل صاحب المحلّ لأنّه من الطائفة العلويّة. أمّا الباقون فذَكَرهم مجرّدين من الأسماء وبصفة “موظّفين”

سبق لواحد من المهاجمين، وهو خالد عبد المجيد الذي قُتل أوّلاً، أن دخل السجن إثر قيامه في حزيران عام 2017 بقتل هيثم هوشر في شارع الراهبات بطرابلس بدافع سياسي. وقد حصلت تلك الجريمة عقب مشادّة بين خالد وشقيقه المناصريْن للّواء أشرف ريفي، وهوشر المؤيّد للرئيس سعد الحريري، وذلك في ذروة الصراع بين تيّار المستقبل وريفي.

لم يسأل أحد كيف خرج خالد من السجن في سنوات قليلة، بل استغلّ الحائكون والمتقوّلون حادثة سجنه ليدّعوا انتماءه داخل محبسه إلى مجموعات إسلامية، وليبنوا عليها روايات “الدعشنة” التي هطلت بغزارة على الجريمة، وأغلبها انطلق من سجن خالد في المبنى “د” مع الإسلاميّين، وتعرُّضه لغسل دماغ وتجنيد، ثمّ تنفيذه بعد خروجه من السجن هذه العملية التي كانت باكورة عمليّاته. واستعيد ما حدث في بلدة كفتون في الكورة لتعزيز الفكرة وترسيخها. كلّ هذه الروايات تدحضها تماماً تحقيقات المخابرات، علماً أنّ الروايات في أغلبها مصدرها أجهزة أمنيّة.

تسخين الجبهة النائمة

على خطٍّ موازٍ، عادت المشهدية الدمويّة لجبل محسن – باب التبّانة مع الجريمة، لأنّ صاحب المحلّ من الطائفة العلويّة. ولم تكد تمرّ ساعات قليلة على حصولها، حتّى صدر موقف عن الأمين العامّ لحزب البعث العربي علي حجازي دعا فيه إلى “التوسّع في التحقيق بموضوع الجريمة التي حصلت في طرابلس وأودت بحياة الصديق محمود خضر واثنين من موظّفيه”.

لم يتأثّر حزب البعث إلّا بجريمة طرابلس، وبالتحديد مقتل صاحب المحلّ لأنّه من الطائفة العلويّة. أمّا الباقون فذَكَرهم مجرّدين من الأسماء وبصفة “موظّفين”. هذا ينضح عنصريّة، ويُعلي من شأن دماء بعض الناس على حساب بعضهم الآخر، يؤكّد أنّ الفرع اللبناني من حزب البعث بنسخته الأسديّة مهمّته فقط الدفاع عن النظام العلوي في سوريا، الذي سقط قناعه الطائفيّ وعنصريّته منذ عام 2011.

بالتزامن مع موقف حزب البعث، حصلت تجمّعات “عفوية” في جبل محسن وإطلاق نار، وأُعيد تفعيل إحدى الصفحات الفيسبوكيّة التي كانت تنشط على خطّ المعارك بين جبل محسن والتبّانة وتروِّج لأخبار معيّنة، وذلك بعد توقّفها عن العمل منذ سنوات. يصعب أنْ يكون ذلك كلّه صدفةً، ولا سيّما أنّ ثمّة معلومات تشير إلى توجّهات بعض الجهات والأجهزة الأمنيّة لتسخين جبهة جبل محسن – باب التبّانة، وقد منحتها جريمة مقتل علويّ على يد بعض السُنّة فرصة ذهبية للتسعير الطائفي.

لكن بما تستفيد تلك الجهات؟ إذا كان ذلك من باب الضغط على الرئيس ميقاتي، فكلّ جولات القتال التي جرت أيام حكومة القمصان السود التي رأسها لم يكنْ لها أيّ تأثير عليه. كانت تلك الجولات تهدف إلى الضغط على تيّار المستقبل من الخاصرة السنّيّة الرخوة، لإرغامه على إبرام التسويات المتتالية، إضافة إلى أهداف أخرى غير بعيدة عنها. أمّا الآن فطرابلس كلّها تقريباً خارج المعادلة السياسية الوطنية، والساحة السنّيّة مشلّعة، ولا وجود لأيّ قوّة سياسية سنّيّة. لذا يصبح السؤال الأساسي: من له المصلحة في تسخين الجبهة النائمة؟

الانفجار الاجتماعيّ

هذه الجريمة هي إحدى نتائج الفوضى الاجتماعية التي تضرب كلّ المدن اللبنانية، ومنها طرابلس التي تشهد يوميّاً إطلاق نار في الهواء ليلاً من مجهولين – معلومين، وما معدّله ثلاث محاولات سلب بقوّة السلاح في نقاط باتت معروفة، وحوادث قتل متكرّرة بدوافع شخصية وعائلية وصلت إلى حدّ إطلاق نار من أب على ابنه، ومن ابن على أبيه.

إقرأ أيضاً: ميقاتي يسعى لزعامة سُنية من الموقوفين الإسلاميين

لا شكّ أنّ الجريمة هزّت الرأي العامّ الطرابلسي. وهي تشكّل مؤشّراً خطيراً إلى تحوّل كبير في نمط الفوضى الاجتماعية، التي يبدو أنّها بدأت ينحو أكثر نحو الانفجار الاجتماعي. وهذا ما يجب معالجته سريعاً. لا يحتاج وزير الداخلية إلى خطّة أمنيّة “سرّية” لضبط الأمن في طرابلس، بل يكفي أنْ تقوم الأجهزة الأمنيّة بـ”ضبضبة” جماعاتها. لكنّ الطامّة الكبرى هي عجزها عن فعل ذلك، وهو ما يجعلنا أمام سيناريوهات كارثية، أقلّها إحكام الجماعات الغوغائيّة سيطرتها على شوارع طرابلس وقرارها بفاتورة دمويّة قاسية.

مواضيع ذات صلة

خشية غربيّة من جولة تصعيد جديدة

إذا لم تُثبت التطوّرات عكس ذلك، فإنّ الأوساط الدبلوماسية الغربية لا ترى في مسوّدة الاتّفاق الذي صاغة الموفد الأميركي آموس هوكستين وقدّمته السفيرة الأميركية لدى…

قيس عبيد: شبحُ مغنيّة الذي حملَ الجنسيّة الإسرائيليّة

منذ أن افتتحَت إسرائيل سلسلة اغتيالات القيادات العسكريّة للحزبِ في شهرَيْ حزيْران وتمّوز الماضيَيْن باغتيال قائد “قوّة الرّضوان” في جنوب لبنان وسام الطّويل وبعده قائد…

بين لاريجاني وليزا: الحرب مكَمْلة!

دخلت المرحلة الثانية من التوغّل البرّي جنوباً، التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، شريكة أساسية في حياكة معالم تسوية وقف إطلاق النار التي لم تنضج بعد. “تكثيفٌ”…

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…