تمسّكت بلدان، مثل سويسرا وفنلندا والسويد والنمسا واليابان وغيرها، بدرجات عالية من الحياد جعلتها في مصافّ الدول المزدهرة والمستقرّة والمسالمة. ظلّت سويسرا خارج الاتحاد الأوروبي، ولم تنتمِ إلى تشكّلات سياسية صوناً لذلك الحياد. حتى حين انضمّت فنلندا والسويد إلى عضوية النادي الأوروبي، ظلّت سياساتهما الخارجية والدفاعية متوازنة محايدة حفاظاً على إرث بات أصيلاً تاريخياً في علاقاتهما بالعالم.
حتّى في عزّ الحرب الباردة، وعلى الرغم ممّا كان الاتحاد السوفياتي يشكّله من سطوة ونفوذ في العالم وما كان يمكن أن يشكّله من أخطار في أوروبا، وخصوصاً لدى دول الجوار، ظلّت دول الحياد محايدة ولم ترَ حاجة إلى التدثّر بعباءة القوة العسكرية الغربية. وعلى الرغم من شنِّ الاتحاد السوفياتي ضدّ فنلندا “حرب الشتاء” عام 1939، بقي نموذج فنلندا، على الحدود المباشرة لروسيا، مدرسة في علم السياسة من حيث انتماء البلد إلى الثقافة السياسية الليبرالية الغربية وبقائه مع ذلك محايداً بصرامة في صراع الغرب مع الكتلة الاشتراكية التي كانت تقودها موسكو.
لم يستطع جوزيف ستالين وخلفاؤه، حتّى انهيار الاتحاد السوفياتي، أن يدفعوا الدول المحايدة إلى الانقلاب على خيار الحياد درءاً للخطر الناجم عن مخالب سوفياتية نافرة طموحة. حتى إنّ الحياد لدى تلك الدول بات عقيدة تبنّتها شعوبها واعتمدتها أحزابها وأجمعت على التمسّك بها كمسلّمة عضوية بنيوية. لم يصدف أنّ تيارات سياسية، مهما اشتدّت معارضتها، أن لوّحت بإسقاط الحياد سبيلاً للوصول إلى السلطة. ما زالت سويسرا، بحكم نظامها السياسي الخاص المتعدّد، لا تطرح (على الرغم من موقفها المنحاز المندّد بالحرب ضدّ أوكرانيا) الخروج من تقاليد الحياد. غير أنّ تلك الحرب أحدثت في فنلندا والسويد زلزالاً تاريخياً عاصفاً.
أقنع بوتين فنلندا والسويد بالذهاب إلى ما لم يكن يوماً على أجندة أيّ حكومة في هلسنكي واستوكهولم. تقدّمت الدولتان بموافقة برلمانية بترشيحَيْهما لعضوية الحلف الأطلسي
نجاح بوتين الباهر
نجح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجاحاً باهراً في ما فشل فيه ستالين وصحبه إبّان المجد السوفياتي المندثر. أقنع بوتين فنلندا والسويد بالذهاب إلى ما لم يكن يوماً على أجندة أيّ حكومة في هلسنكي واستوكهولم. تقدّمت الدولتان بدون لبس وبدون أيّ معارضة داخلية وازنة وبموافقة برلمانية بترشيحَيْهما لعضوية الحلف الأطلسي. توصّل بوتين إلى إقناع البلدين بأنّ طموحاته وسياساته وعقائده أشدّ خطورة على فنلندا والسويد (ودول أوروبية أخرى) ممّا كانت عليه العهود منذ لينين إلى غورباتشوف مروراً بستالين والستالينية.
كانت المفارقة صاعقة. اعتبرت موسكو، في معرض تبرير “العملية العسكرية الخاصة” في أوكرانيا، أنّ انتماء هذا البلد، الواقع على الحدود مع روسيا، إلى الحلف الأطلسي، يمثّل خطراً استراتيجياً على البلاد، وأنّ الروس اضطرّوا إلى الحرب لمنع ذلك الكابوس. فإذا بالمفاجأة الأكثر وقعاً وصعقاً تأتي من فنلندا البلد الواقع أيضاً على حدود روسيا.
1300 كلم من التهديد
يبلغ طول حدود روسيا مع أوكرانيا التي تشكّل هذا الكابوس حوالي 400 كلم. لم يحتمل الخطاب الروسي أن يطلّ الناتو من هذه الحدود إلى درجة شنّ حرب تحذّر موسكو من تطوّرها إلى حرب عالمية ثالثة، نووية بالطبع. بالمقابل، وبعد مرور ثلاثة أشهر على الحرب في أوكرانيا، وبسبب هذه الحرب بالذات، تقرّر فنلندا التي يبلغ طول حدودها مع روسيا حوالي 1,300 كلم أن تنضمّ إلى الحلف الأطلسي، وهو ما يعني أنّ القوة العسكرية لهذا الحلف ستطلّ على روسيا على امتداد أكثر من ثلاثة أضعاف الحدود الروسية الأوكرانية.
الأكثر فداحة في هذه المفارقة أنّ الحلف الأطلسي سبق له أن تحفّظ على عضوية أوكرانيا، ولاقى الأمر فيتو فرنسي ألماني واضح، وأنّ الحلف لم يباشر يوماً أيّ إجراءات لدرس ملف أوكرانيا، ناهيك من أنّ كييف نفسها أعلنت أخيراً، في معرض البحث عن سبل لوقف الحرب، تخلّيها عن طموحاتها الأطلسية والاستعداد للالتزام بالحياد إذا ما توفّرت ضمانات أمنيّة دولية. فيما، بالمقابل، فنلندا صاحبة الـ1,300 كلم من الحدود مع روسيا ذاهبة إلى “الناتو” بدعم وترحيب من دول الحلف باستثناء تركيا التي تناور في هذا الأمر توسّلاً لمساومات مع الدولتين والولايات المتحدة وأوروبا في ملفّات أخرى.
اللافت في سوريالية هذا التحوّل أنّ روسيا شنّت حرباً مدمّرة ضدّ أوكرانيا تكثّفت في الشرق والجنوب ولم توفّر نيرانها الشمال والغرب بزعم منع أوكرانيا من الالتحاق بالأطلسي. فيما لا يبدو أنّ روسيا تملك مع فنلندا إلا قطع ما يمثّل 10 في المئة من كهرباء فنلندا، مبرّرة ذلك بفواتير غير مسدّدة وعدم ربط الأمر بقرارات هلسنكي الأطلسية، وقطع الغاز، وهي المادّة التي تمثّل حوالى 8 في المئة من الطاقة المستهلَكة في فنلندا، ويُستورد معظمها من روسيا، وتبرير ذلك برفض هلسنكي سداد فواتيرها بالروبل. حتى إنّ بوتين نفسه لا يجد في قرار فنلندا والسويد تهديداً.
إقرأ أيضاً: أبعد من الحرب على أوكرانيا
على هذا فإنّ لحرب أوكرانيا محفّزات في أجندة الكرملين ليست الهواجس من الأطلسي إلا هامشاً فيها وليست الأصل. فما هو مقبول ويتمّ التساهل فيه مع فنلندا والسويد ليس مقبولاً في ما تعتبره موسكو “حدائقها الخلفيّة” في أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا. وحين سُئل معلّق روسي عن تساهل موسكو مع أطلسيّة فنلندا وتدميرها بالنار أطلسيّة أوكرانيا، خرج بفتوى جديدة أنّ الأطلسي لم يكن السبب في الحرب ضدّ أوكرانيا، ذلك أنّ موسكو ما زالت تبحث بيأس عن سبب مقنع لعبثها هناك.
*كاتب لبناني مقيم في لندن