لا يترك وليد جنبلاط مناسبة إلا ويظهر فيها أنّه أبرع مَن خاض غمار السياسة. معروف عن جنبلاط أنّه في الميدان لا يقيم اعتبارات للعواطف، ولا تغلب عليه الحماسة في احتساب مكاسبه واستعجال إظهار قوّته. يبقى على هدوئه. يراقب، يهندس، ويوجّه ضربته بصمت وهدوء حتى وقت صدور النتيجة.
بحرفة أدار جنبلاط معركته الانتخابية. هي انتخابات مماثلة جدّاً للضربة القويّة التي وجّهها إلى خصومه في البيئة الدرزية عند انتخاب شيخ عقل الطائفة سامي أبي المنى. نشط خصومه طوال الفترة الماضية في خوض معركة إعلامية شرسة ضدّه. شنّوا حرباً نفسية حتى جزموا أنّ الرجل سيخسر الدروز فيما سيقاسمه حزب الله نصفهم. ثمّة مَن هدّده بعودة النظام السوري من خلال عودة رموزه. وآخرون توعّدوه بأنّه سينتظر إلى حين قبول تلقّي اتصاله لتحديد موعد له في الشام. لكنّ جنبلاط ومن حيث لا يحتسب أحد أخرج السيف من غمده، قفز إلى النهر وعاكسه، وربّما انتشل جثثاً منه وضعها على حافة المجرى.
حصّن وليد جنبلاط الشوف، وأسقط تهديد حزب الله له بأنّه سينتزع منه الأكثرية الدرزية
أسقط وليد جنبلاط رموز النظام السوري، بهدوء هذه المرّة. بلا مواقف عالية ومرتفعة. وبلا حماسة تشابه حماسة أحداث العام 2005 وما تلاها. وكأنّ الرجل يعود إلى صبا ذاك الربيع. وكرّس معادلة أساسيّة ستثبتها الأيام المقبلة بشاهدة تاريخية، مفادها أنّه قادر على جعل الدروز يلتفّون من حوله حين يستمع إلى تطلّعاتهم ويتقبّل ما يختلجهم. فهم الذين رفضوا مروان خير الدين في الجنوب الثالثة، فأخذ بما يريدون، واستشعر غضبتهم، فذهب إلى ملاقاتها في الصناديق. ولم يكتفِ بذلك، إذ صبّت الأصوات الاشتراكية الدرزية في مصلحة فراس حمدان مساهمةً في إسقاط أسعد حردان، ومحقّقةً الخرق الأكبر في أحد أبرز معاقل حزب الله. ولو لاقاه السُنّة في العرقوب وفي الشوف وغيرهما من المناطق لكانت النتائج مدوّية أكثر.
تحصين الشوف من الحزب
حصّن وليد جنبلاط الشوف، وأسقط تهديد حزب الله له بأنّه سينتزع منه الأكثرية الدرزية. وأسقط طلال أرسلان في عاليه على الرغم من ترك مقعده شاغراً على لائحة تيمور.
لم يفتح جنبلاط معركة درزية، لكنّه وجّه الصفعة لأرسلان ردّاً على صفعات كلاميّة كثيرة وجّهها إليه أرسلان الذي شعر بانتفاخ كبير منذ فوزه بمقعد شاغر في العام 2018، وصولاً إلى أحداث قبرشمون وما بعدها.
سقط أرسلان في شرّ أعماله. فعندما كان التفاوض يدور على ترشيح مروان خير الدين في الجنوب الثالثة، لم يفتح جنبلاط ملفّ بيروت الثانية. استقوى أرسلان بغياب الحريري ودعم حزب الله له، فتوهّم أنّه سيكون قادراً على تحقيق مقعد ثانٍ.
ثمّة مَن نصح أرسلان يومئذٍ قائلاً له بأنّ جنبلاط أهداك مقعدك في عاليه ومقعداً لخير الدين في حاصبيا، وحرص على بيتك السياسي وحمايته، وعلى الثنائية في الطائفة، فهل يُعقل أن تتّجه إلى التحالف مع التيار الوطني الحرّ ووئام وهاب ضدّه في الشوف لإضعافه؟ وكيف ترضى أن تكون خنجراً في ظهره في بيروت من خلال إصرارك على مرشّحك؟ يجدر بك أن تلاقي كبر وليد جنبلاط بموقف كبير وتقول له: “أنت اتّخذت خطوات كبيرة معي، فلا يسعني إلا أن أقابلك بمثلها، ولا أرتضي أن يهدّدوك في بيروت ولا في الشوف”.
لكنّ أرسلان رفض يومذاك، واعتبر بعض المحسوبين عليه أنّه لا يجرؤ على اتّخاذ مواقف كهذه لأنّ حزب الله طلب منه ذلك، وهو أسير لدى التيار الوطني الحرّ ولدى حساباته الأنانيّة.
إقرأ أيضاً: وليد جنبلاط يسلّم تيمور(1): “سِر ضدّ محور التدمير والتزوير”
في 15 أيّار كرّس جنبلاط الأحادية الدرزية، مع إعطاء فرصة لقوى التغيير المدني، التي مقوّمات الالتقاء معها استراتيجياً متوافرة إلى حدود بعيدة. وأسقط عن كاهل تيمور عبء أن يأتيه مَن يقول له إنّه زعيم في مواجهته أو يريد فرض ثنائيّة درزية مقرِّرة.