جندي أميركي يتسلّق تمثالاً هائلاً لصدّام حسين في ساحة الفردوس، ثمّ يهرع نحو تغطية رأسه بعلم الغزاة المرقّط بالنجوم، قبل لحظات قليلة من تدفّق الجموع الغاضبة التي خلعت على نحو مباغت رداء خوفها، وراحت تجتثّ صخرة على شاكلة القائد المهيب، وما إن هوت وساوت الأرض، حتى هوى معها كلّ شيء.
صورة واحدة كانت تكفي للتسليم تماماً بسقوط بغداد وأفول نظامها. لم يسأل أحد وقتذاك عن مصير صدّام وأركان حكمه وقادة جيشه وفريقه اللصيق. طوت تلك المشهديّة كلّ هذه التفاصيل. فالانطباع أقوى من الحقيقة وأمضى وأشدّ وقعاً. والهيبة هي الهيبة. تُشيَّد قطعة فوق قطعة. وتُطرَّز خيطاً جنب خيط. لكنّها تسقط مرّة واحدة متى هان وقعها على النفوس، ومتى تجاسرت عليها قبضات وحناجر وأقدام.
رأى فلاديمير بوتين، رأسه محمولاً بين يدَيْ رجل يهمّ بوضعه في صندوق خشبي، بعدما نزعه عن البدن المنصوب إلى جانب زعماء العالم، في أحد أشهر متاحف الشمع بلا منازع
حدث ذلك أيضاً في دمشق وفي غيرها. جَرُؤ الناس على ما كانوا يخشون مجرّد التفكير فيه، حتى في أضغاث أحلامهم. بدأت الحكاية بأظافر صِبية سُحِبت من مخادعها في أقبية الأمن وعسس المخابرات المتوحّشة، ثمّ تدحرجت لعبة الدم والقهر والكرامات، فأُحرقت الصور ودُمِّرت التماثيل بعد نزع رؤوسها، ثمّ رقصت الجموع فوق ركامها، وهي الجموع نفسها التي ظلّت تُصفّق دهراً للقائد الخالد، قبل أن يستحيل غباراً بين أقدامهم.
صورة هؤلاء وهيبتهم ورهبتهم ووطأة حضورهم هي أهمّ وأبلغ وأشدّ وقعاً في القلوب وفي العقول وفي النفوس. وهم ينتمون جميعهم إلى القماشة نفسها، وإلى الذهنيّة التي تحمل أصحابها نحو قمّة الجنون. من موسوليني وهتلر، إلى معمّر القذّافي وحافظ الأسد، وصولاً حتى فلاديمير بوتين، القيصر الذي رأى رأسه محمولاً بين يدَيْ رجل يهمّ بوضعه في صندوق خشبي، بعدما نزعه عن البدن المنصوب إلى جانب زعماء العالم، في أحد أشهر متاحف الشمع بلا منازع.
أدرك العالم سريعاً كيف يتعامل مع نَزِق من عيار بوتين، وهو الذي كان يُحبّذ الجنوح نحو اشتباك نوويّ يُفني الكوكب برمّته، بدل الركون إلى الاستهدافات الناعمة التي تنال من هيبته وصورته، وهو الذي جاهد طويلاً في بنائها وترسيخها وتحويلها على نحو مدروس وممنهج إلى ما يشبه الأيقونات الساحرة، إن بصدره العاري وعضلاته المفتولة، أو بهواياته ورياضاته وطلّته وأساليب مشيته وخطاباته واجتماعاته، وهو الذي أراد أن يُظهر نظيره الفرنسي وقد أجلسه إلى آخر الطاولة في صورة شديدة الاستغراب والاستفزاز.
كان أهون على بوتين أن تعمد أميركا إلى قصف موسكو بدل إخراج منتخبه من تصفيات كأس العالم، وكان أهون عليه أيضاً أن يباغته حلف الناتو بأرتال الدبّابات والمدرّعات والطائرات والأساطيل البحرية، من أن تفقد بلاده حقّها في استضافة دوري أبطال أوروبا وفي المشاركة فيه، وأن تُمنَع من تنظيم فعّاليات الجائزة الكبرى لسباق السيارات، وأن يُطرد من الألعاب الأولمبية، وأن تُلغى عروض الفرق الروسية من أرفع دور الأوبرا في أوروبا والعالم، وأن يُعاقب بعزلة موصوفة وغير مسبوقة من كبريات شركات الإنتاج في التلفزيون والسينما، ومن إدارات المهرجانات الدولية الذائعة الصيت في أربع جهات الأرض.
إقرأ أيضاً: عن حقّنا في أن نشمت بأوروبا.. ونتحمّس للقيصر!!
هذا عقاب يتجاوز كلّ عقاب. بل وفيه من الأذيّة والصفع والإهانة ما يتخطّى قدرة هذا الرجل على الاحتمال. وقد دفعه الدفق الهادر من القوّة الناعمة إلى التلويح باستخدام السلاح النووي، في مواجهة خصوم يبرعون بسحله من ربطة عنقه.
أكثر ما يؤلم بوتين هو أن يرى رأسه وقد هوى في يد رجل من عموم الناس. يحمله بهدوء إلى قبو متحف عملاق في عاصمة النور. ليتركه هناك. إلى جانب زملائه المجانين. أولئك الذين ظنّوا لبرهة أنّهم قد يبلغون سيادة العالم بعقد الحاجبين، لأنّ الأسارير المنفرجة تحطّ من قدر الدول ومن قدر الرجال.