الانتصار الإيرانيّ الأجوف

مدة القراءة 10 د

كريم سجادبور* (Foreign Affairs)

 

قليلة هي البلدان التي حافظت على تطلّعات أوضح أو أكثر اتّساقاً من تلك التي حافظت عليها جمهورية إيران الإسلامية على مدى العقود الأربعة الماضية منذ عام 1979 عندما حوّل الثوار الإسلاميون البلاد من نظام ملكي متحالف مع الولايات المتحدة إلى نظام ثيوقراطي (حكم رجال الدين) معادٍ بشدّة لأميركا. لقد سعت إيران إلى طرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، وإحلال فلسطين مكان إسرائيل، وإعادة تشكيل المنطقة على صورتها. وبخلاف الاستراتيجية الأميركية اتّجاه إيران ومسألة الشرق الأوسط الكبير، التي تبدّلت بشكل ملحوظ مع الإدارات المختلفة، فقد أظهرت الاستراتيجية الإيرانية اتجاه الولايات المتحدة والشرق الأوسط استمراريّة ملحوظة. لم تحقّق طهران أيّاً من طموحاتها العالية، لكنّها أحرزت تقدّماً نحوها، وتشعر بالحماسة بسبب نجاحاتها الأخيرة.

فعلى مدى العقدين الماضيين، رسّخت إيران وضعها المتقدّم في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وهي الدول الأربع الفاشلة التي تشكّل ما يسمّيه المسؤولون الإيرانيون “محور المقاومة”. لقد فعلت ذلك من خلال نجاحها في تطوير الميليشيات الإقليمية، مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، واستغلال فراغ السلطة الذي خلّفته الولايات المتحدة عند غزوها ??العراق عام 2003، وما خلّفته الانتفاضات العربية بين عاميْ 2010 و2011. وبالمقابل، لم تُظهِر الولايات المتحدة ولا خصوم إيران الإقليميون الإرادة أو القدرة على تحدّي موطئ قدم طهران في هذه البلدان. ما عدا السعودية في اليمن.

إيران تواجه معضلة إصلاحيّة، إذ يجب عليها أن تنفتح وتتأقلم من أجل البقاء، لكنّ القيام بذلك يمكن أن يدمّرها

وعلى الرغم من أنّ طهران وواشنطن واجهتا عدداً من التهديدات المشتركة منذ عام 1979، بما في ذلك الاتحاد السوفياتي، والعراق تحت حكم صدام حسين، وتنظيم القاعدة، وحركة طالبان، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، إلا أنّ الولايات المتحدة فشلت في محاولات لها متكرّرة في حثّ إيران أو الضغط عليها لتغيير مسارها. لقد أثبتت الجمهورية الإسلامية أنّها شديدة الصلابة بحيث لا يمكن استمالتها، وأنّها قاسية جدّاً بحيث لا يمكن كسرها.

ومع ذلك، ومثل لاعب كمال الأجسام الذي يعاني خللاً في الأعضاء، تُظهر إيران نشاطاً خارجياً يخفي أمراضاً داخلية مستعصية. يعرّف المؤرّخ جون لويس جاديس (John Lewis Gaddis) الاستراتيجية الكبرى بأنّها “مواءمة تطلّعات محتملة غير محدودة مع قدرات محدودة بالضرورة”. لقد استثمرت إيران أكثر من أيّ دولة أخرى في العالم، بما في ذلك الصين وروسيا، حجماً أكبر من قدراتها المحدودة في تطلّعها نحو تغيير النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة. وبذلك، أهملت رفاهية شعبها، وجعلت نفسها أكثر فقراً وأقلّ أماناً. علاوة على ذلك، فإنّ الهوّة بين تطلّعات الجمهورية الإسلامية وقدراتها تعني أنّ إيران ستستمرّ في استنزاف الموارد الوطنية لدعم الميليشيات الإقليمية والصراعات الخارجية، معمِّقةً الإحباط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للجمهور الإيراني، ومستخدمةً المزيد من القمع.

إنّ إيران تواجه معضلة إصلاحيّة، إذ يجب عليها أن تنفتح وتتأقلم من أجل البقاء، لكنّ القيام بذلك يمكن أن يدمّرها. وعلى عكس الثوار الإيرانيين الأكثر براغماتية، مثل الرئيسيْن السابقين أكبر هاشمي رفسنجاني وحسن روحاني، اللذين فضّلا الانفتاح الاقتصادي وفق النمط الصيني، والتقارب مع الولايات المتحدة، خلص مرشد الثورة علي خامنئي منذ فترة طويلة إلى أنّ التخلّي عن مبادئ الثورة، بما في ذلك معارضتها للولايات المتحدة وإسرائيل، سيكون مثل استعمال مطرقة ثقيلة لضرب أعمدة المبنى. لقد أقنعه انهيار الاتحاد السوفياتي (يعتقد خامنئي أنّ الانهيار تسارع بسبب إصلاحات ميخائيل غورباتشوف) بحكمة الفيلسوف والمؤرّخ الفرنسي أليكسيس دي توكفيل (Alexis de Tocqueville)، وهي أنّ “أكثر اللحظات خطورة بالنسبة لحكومة سيّئة هي حين تسعى إلى إصلاح أساليبها”.

الأيديولوجية قبل الأمّة

مثل عدد من الحضارات القديمة التي شهدت انتصارات كبيرة وإهانات كبيرة، فإنّ إيران هي في الوقت نفسه واثقة بنفسها، وغير آمنة للغاية. يمكن القول إنّ الإمبراطورية الفارسية القديمة كانت أول قوّة عظمى في العالم. لكن لقرون قبل عام 1979، احتلّت القوى الأجنبية أراضي إيرانية، وانتهكت سيادتها. وبين عاميْ 1813 و1828، استولت روسيا الإمبراطورية بالقوّة على مناطق شاسعة في القوقاز من بلاد فارس أثناء حكم سلالة قاجار. وفي عام 1946، سعت القوات السوفياتية إلى ضمّ مقاطعة أذربيجان الشمالية الغربية التابعة لإيران، لكنّها طُردت منها بفضل جهود الرئيس الأميركي هاري ترومان. لكن بعد سبع سنوات، أي في عام 1953، دبّرت المملكة المتحدة والولايات المتحدة انقلاباً أطاح برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدّق. وبالنظر إلى هذا التاريخ، يعتقد كثير من الإيرانيين، بغضّ النظر عن مواقفهم السياسية، أنّ القوى العظمى تريد منع بلدهم من الازدهار والاستقلال. وتستغلّ الجمهورية الإسلامية، مثل عدد من الديكتاتوريّات، هذا التاريخ لتبرير قمعها الداخلي، وطموحاتها الخارجية.

لا يوجد بلد في الشرق الأوسط لديه التركيبة الإيرانية من الحجم الجغرافي، ورأس المال البشري، والتاريخ القديم، والموارد الطبيعية الهائلة. ولكن بدلاً من الاستفادة من هذه الهبات لتصبح قوة اقتصادية عالمية أو لتعزيز مصالحها الوطنية، قامت الجمهورية الإسلامية ببناء سياستها الخارجية على ركيزتين هما: مواجهة الولايات المتحدة ومحاربة إسرائيل. وباستخدام ثلاث أيديولوجيات متميّزة هي: معاداة الإمبريالية، والطائفية الشيعية، والقومية الإيرانية، نجحت طهران في استثمار شركاء متنوّعين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه، واستخدمتهم جاعلةً منهم وكلاء لها في مواجهة أعدائها. إنّ الرؤية المثالية لطهران هي شرق أوسط لا توجد فيه الولايات المتحدة، والاستفتاء الشعبي على جعل إسرائيل دولة فلسطينية، وأن يكون الحكم الثيوقراطي الخميني مصدر إلهام لقلوب وعقول العرب والمسلمين. لكنّ هذه الرؤية بعيدة كلّ البعد عن أن تصبح حقيقة.

على مدى العقدين الماضيين، رسّخت إيران وضعها المتقدّم في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وهي الدول الأربع الفاشلة التي تشكّل ما يسمّيه المسؤولون الإيرانيون “محور المقاومة”

وبصفتها الدولة الثيوقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تعلّمت إيران تسخير الراديكالية الإسلامية، السنّيّة والشيعية على حدٍّ سواء، بشكل أفضل من أيٍّ من أقرانها. ومن بين الأسباب التي جعلت طهران تتفوّق على منافسيها من العرب السُنّة أنّ جميع الراديكاليين الشيعة تقريباً على استعداد للقتال من أجل إيران، في حين أنّ معظم الراديكاليين السُنّة، بما في ذلك القاعدة وداعش، يعارضون الحكومات العربية الحاكمة. في الواقع، فإنّ المعيار الأعلى لطهران بالنسبة لتحالفاتها الاستراتيجية هو الأيديولوجية، وليس الدين، كما يتّضح من علاقاتها الوثيقة مع الجماعات السنّيّة الراديكالية، كحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيّتين اللتين منحتهما مليارات الدولارات لمحاربة إسرائيل. بل إنّ طهران عملت من حين لآخر مع الأصوليين السُنّة، بمن فيهم القاعدة وطالبان، الذين يهاجمون الشيعة بوصفهم مرتدّين. وبدلاً من إعطاء الأولويّة للمصالح الوطنية الإيرانية، فإنّ الاستراتيجية الكبرى للجمهورية الإسلامية مبنيّة على تسلسل هرميّ للعداء: فأيّ عدوّ للولايات المتحدة وإسرائيل هو شريك محتمل لطهران.

 

نجاح يستدعي الغرور

ما بدأ ثورةً ضدّ فساد وقمع محمد رضا شاه بهلوي، أصبح الآن فيلقاً إسلامياً أجنبياً متورّطاً في القمع السياسي، والاغتيالات، واحتجاز الرهائن، والفساد الاقتصادي، وتهريب المخدِّرات. وعلى الرغم من كلّ نجاح إيران في تنمية الجماعات المسلّحة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، إلا أنّ هناك دلائل ملموسة على أنّها تجاوزت حدودها. فاستطلاعات الرأي تكشف أنّ ما يقرب من ثلثيْ الشباب العربي في المنطقة ينظرون الآن إلى إيران على أنّها خصم، وأنّ غالبية كبيرة من العرب من جميع الأعمار يريدون أن تنسحب إيران من الصراعات الإقليمية، وأنّ أكثر من نصف الشيعة العرب لديهم وجهة نظر “غير مؤاتية”. ومع تدهور الاقتصاد الإيراني، بدأ الإيرانيون بطبيعة الحال بالتشكُّك في سياسات الحكومة، ومنها عداؤها للولايات المتحدة، ومغامراتها الخارجية. لكن على الرغم من أنّ إيران تشهد اضطرابات شعبية متزايدة، إلا أنّ قوات الأمن التابعة للنظام تبدو الآن، من بعيد على الأقلّ، متّحدة وراغبة في القتل، في حين أنّ الجماهير الساخطة في البلاد منقسمة وبلا قيادة. هذا الاستقرار على المدى القريب يعني أنّ استراتيجية إيران الكبرى لن تتغيّر ما دام خامنئي هو المرشد الأعلى. وقد شجّع انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان طهران على محاولة إجبار واشنطن على التخلّي عن العراق وعن قواعدها العسكرية في الخليج. وبالنظر إلى العقوبات المنخفضة نسبياً التي فُرِضت على إيران مقابل سياساتها الإقليمية، مقارنة بالتأكيد مع التكاليف الهائلة التي تحمّلتها طهران في شكل عقوبات وتخريب بسبب تعنّتها النووي، فليس لديها سبب وجيه لوقف دعم الميليشيات في جميع أنحاء الشرق الأوسط. والسؤال الأكثر جوهرية ليست له إجابات سهلة: كيف ينبغي لواشنطن أن تتعامل مع خصم يتجنّب الحوار المباشر، وتقوم هويّته على أساس العداء للولايات المتحدة، ولديه الموارد والعزم على زرع الفوضى في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ويقتل الآلاف من مواطنيه للحفاظ على قوّته؟ لقد اعتقد صنّاع السياسة في الولايات المتحدة أنّ أيديولوجية إيران الثورية يمكن إمّا أن تعتدل من خلال التعاطي الأميركي مع النظام أو إخمادها بالصلابة الأميركية. في حين افترض عدد من المحافظين أنّ المصاعب الاقتصادية الكبرى ستُجبر طهران على الاختيار بين أيديولوجيتها وبقاء النظام.

إقرأ أيضاً: واشنطن وطهران: لعبة الشوط الأخير

مَلِك فوق الركام

قد تبدو القوة الإيرانية في الشرق الأوسط في صعود، لكن من المرجّح أن تكون سريعة الزوال. فالعرب الذين انزعجوا من قرون من الهيمنة التركية والغربية لن يقبلوا النفوذ الإيراني بسهولة، حتى أولئك العرب الذين يُنظر إليهم على أنّهم متعاطفون مع إيران، مثل رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، الذي أمضى سنوات في المنفى في طهران، ينتابهم استياء خاص. فقد قال المالكي للسفير الأميركي في بغداد ذات مرّة: “أنت لا تعرف مدى السوء الذي يمكن أن يكون عليه الأمر حين يضطرّ عربي إلى العيش مع الفرس”. يمكن أن تظلّ إيران بمنزلة مَلِك فوق الركام لسنوات أو حتى لعقود. فقلّة من القوى الأجنبية أو الإقليمية لديها الرغبة أو القدرة على تحدّي الهيمنة الإيرانية في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وفي أفغانستان والعراق بعد عقدين من الحرب، فالولايات المتحدة غير موجودة تقريباً. ومثل ناطحة سحاب ذات أساس متعفّن، يمكن للجمهورية الإسلامية الاستمرار في إلقاء ظلالها على أجزاء من الشرق الأوسط في المستقبل المنظور، على الرغم من عدم استقرارها، أو قد ينهار الهيكل. ولن تُهزم الاستراتيجية الكبرى للجمهورية الإسلامية من قبل الولايات المتحدة أو إسرائيل، بل من قبل الشعب الإيراني، الذي دفع الثمن الأكبر مقابل ذلك.

 

* كريم سجادبور باحث أوّل في مؤسسة كارنيغي للسلام الدوليّ.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا

مواضيع ذات صلة

الرواية الإسرائيلية لتوقيت تفجير “البيجرز”

هل كان يمكن لتفجير “البيجرز” لو حدث عام 2023 انهاء الحرب في وقت أبكر؟ سؤال طرحته صحيفة “جيروزاليم بوست” التي كشفت أنّه كان يمكن لتفجير البيجرو…

فريدمان لفريق ترامب: ما حدث في سوريا لن يبقى في سوريا

تشكّل سوريا، في رأي الكاتب والمحلّل السياسي الأميركي توماس فريدمان، نموذجاً مصغّراً لمنطقة الشرق الأوسط بأكمله، وحجر الزاوية فيها. وبالتالي ستكون لانهيارها تأثيرات في كلّ…

ألكسندر دوغين: إسقاط الأسد فخّ نصبه بايدن لترامب

يزعم ألكسندر دوغين الباحث السياسي وعالم الفلسفة الروسي، الموصوف بأنّه “عقل بوتين”، أنّ سوريا كانت الحلقة الأضعف في خطّة أوسع نطاقاً لتقويض روسيا، وأنّ “سقوط…

إغناتيوس: قطر تقود جهود تشكيل حكومة انتقاليّة في سوريا

كشف ديفيد إغناتيوس المحلّل السياسي في صحيفة واشنطن بوست أنّ “قطر، التي كانت لفترة طويلة داعمة سرّية لهيئة تحرير الشام، تقود الجهود العربية لإنشاء حكومة…