كان من الطبيعي أن يتبرّأ المسؤولون اللبنانيون من حقيقة أنّ لبنان اقترح نصّاً لفقرة أو اثنتين من القرار 2650، الذي جدّد بموجبه مجلس الأمن لقوّات الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب لبنان في 31 آب الماضي لسنة أخرى، يتجنّب ذكر القرارين 1559 و1680 ومندرجات اتفاق الطائف، في مسوّدته ما قبل النهائية. فقد جرى نفي الأنباء عن اقتراح الجانب اللبناني نصّاً يخالف ما كان يجري في شكل سنوي منذ العام 2006، إثر حرب تموز الإسرائيلية على لبنان، التي أوقفها القرار 1701 بعدما صدر حينذاك، مستنداً إلى كلّ القرارات الدولية السابقة، ومنها القراران المذكوران. وجاء هذا النفي في صيغة “توضيح” صدر عن وزارة الخارجية اللبنانية.
توضيح الخارجية مواربة أم تهرُّب؟
توضيح الخارجية “يوارب” ما جرى، هذا ما رأته الأوساط السياسية في بيروت، التي دقّقت في حقيقة ما جرى تسريبه في شأن الصياغة اللبنانية المختلفة عمّا صدر في نصّ القرار.، فقد كشفت معلومات لـ”أساس” أنّ البعثة الفرنسية في الأمم المتحدة تبنّت هذه الصياغة قبل أن تتراجع عنها بعد تحفّظ دول أخرى عليها، ومنها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية ودولة الإمارات العربية المتحدة.
ورأت بعض هذه الأوساط أنّه توضيح يحاول إخفاء محاولة “تطيير” مرجعيّة القرارين المذكورين واتفاق الطائف في مسألة بسط سيطرة الحكومة اللبنانية في الجنوب (في مقدَّم الأسباب الموجبة)، أو في الفقرة التنفيذية التي تحثّ على الانتقال إلى حلّ دائم للوضع في منطقة عمليات القوات الدولية حيث يقتصر النصّ عادة على مرجعية القرارين الدوليين من دون “الطائف”.
قرارات مجلس الأمن السابقة التي جدّدت لـ”اليونيفيل”، استندت إلى القرارين في المقدّمة، ثمّ في الفقرات التمهيدية للقرار التي تُعتبر بمنزلة أسباب موجبة (حيث يُذكر إلى جانبهما اتفاق الطائف)، ثمّ في أحد القرارات التنفيذية.
رأت بعض هذه الأوساط أنّه توضيح يحاول إخفاء محاولة “تطيير” مرجعيّة القرارين المذكورين واتفاق الطائف في مسألة بسط سيطرة الحكومة اللبنانية في الجنوب
تجنُّب الـ1559 والـ1680 والطائف في فقرة تمهيديّة
النصّ الذي اقترحه الجانب اللبناني في المسوّدة يتجنّب ذكر القرارين والطائف في إحدى الفقرات التمهيدية التي تعالج “أهمية بسط سيطرة حكومة لبنان على كامل الأراضي اللبنانية وفق أحكام القرارين 1559 و1680 والأحكام ذات الصلة الواردة في اتفاق الطائف”.
لم تشطب المسوّدة اللبنانية القرارين من المقدّمة الإلزامية التي يبدأ القرار فيها بالتذكير بكلّ القرارات المتعلّقة بلبنان وعددها 20 قراراً. لكنّ المصادر المتابعة أشارت إلى أنّ هذه الصياغة تجنّبت ذكر مرجعيّة القرارين 1559 و1680 في الفقرة التي جاءت في الترتيب الـ19 من الفقرات التنفيذية لاحقاً، والتي تنصّ على “حثّ جميع الأطراف على التعاون مع مجلس الأمن والأمين العامّ للأمم المتحدة من أجل إحداث تقدّم ملموس نحو وقف إطلاق نار دائم وحلّ طويل الأمد كما يتضمّنه القرار 1701 ووفق كلّ القضايا المتعلّقة بتطبيق القرارات 1701 (عام 2006)، و1680 (2006)، و1559 (2004)، وسائر قرارات مجلس الأمن”.
كيف هبطت الصياغة على الخارجيّة؟
يؤكّد التوضيح اللبناني حول ما تسرّب من معلومات “احترام (لبنان) جميع قرارات مجلس الأمن لدى الأمم المتحدة ويلتزم بها”، وأنّه “من غير الوارد أن يطلب ولم يطلب حذف الإشارة الى هذين القرارين المذكورين أعلاه في متن قرار التجديد لليونيفيل”. فيما المعلومات المتسرّبة عمّا جرى من صياغات لمسوّدات في أروقة مجلس الأمن لم تقل إنّ لبنان تخلّى عن القرارين الدوليَّين واتفاق الطائف، بل إنّه جرى تفادي اعتبارهما والطائف مرجعيات للتعاطي مع مسألة بسط سيطرة الحكومة في الجنوب في المقدّمة التمهيدية، أي الأسباب الموجبة، وجرى تجنّب الاستناد إلى القرارين الدوليين في الفقرة المتعلّقة بوقف النار الدائم… من ضمن الفقرات التنفيذية التي يبلغ عددها عادة في قرارات التجديد للقوات الدولية بين 30 و32 فقرة.
كيف تمّت الصياغة اللبنانيّة للفقرات موضوع الالتباس؟
جهات سياسيّة سعت إلى معرفة الملابسات، فراجعت، وتبيّن أنّ الصياغة اللبنانية “هبطت” من مكان ما على الخارجية، من مصادر أخرى رسميّة. ويعود سبب استقصاء هذه الجهات إلى استيائها من استسهال الاستغناء أو شطب مرجعية اتفاق الطائف في التعاطي مع “بسط سيطرة الحكومة على الجنوب”، وسط خشية من أن يكون الهدف خلق سابقة في النصّ يتسلّح بها الحزب من أجل تبرير احتفاظه بسلاحه بحجّة التساهل الدولي مع هذا السلاح في القرارات الدولية، في وقت تثير أطراف خارجية ومحليّة مسألة احتفاظ الحزب بالسلاح خارج إطار الشرعية. هذا بالإضافة إلى الرغبة في التخلّص من مرجعية القرارين 1559 و1680 عندما يحين وقت بحث الانتقال إلى وقف إطلاق النار الدائم والحلّ الطويل المدى للوضع في الجنوب.
من يكذب ميقاتي أو بو حبيب؟
أفادت الأوساط السياسية، التي دقّقت في مصدر الصياغة اللبنانية، في حديث إلى “أساس”، أنّ البعثة اللبنانية في نيويورك نبّهت الخارجية إلى أنّ المسوّدة اللبنانية ستلاقي اعتراضاً محليّاً ودوليّاً، ولا سيّما في شأن الفقرة المتعلّقة بالطائف، وأنّ وزير الخارجية عبد الله بوحبيب شدّد على البعثة أنّ هذا موقف الحكومة ولا بدّ من اعتماده، وأنّ بوحبيب سأل رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إن كان قد أعطى تعليمات معيّنة لبعثة نيويورك، فكان جوابه بالنفي. وعلى ذمّة هذه الأوساط السياسية أنّ ميقاتي اتّصل ببعثة لبنان في نيويورك وأبلغها أن لا علم له بالصياغة التي أُرسلت إليها لمسوّدة القرار، والتي كان الجانب الفرنسي تبنّاها في اليوم نفسه لاجتماع مجلس الأمن.
التوجّس من التبنّي الفرنسيّ ثمّ التوضيح
أثارت التسريبات عن التبنّي الفرنسي للصياغة اللبنانية حفيظة أوساط تعتقد أنّ باريس تبالغ في مراعاة الحزب في بعض جوانب السياسة اللبنانية، وترتاب من التبنّي الفرنسي لتلك الصياغة، فجاء الجواب في بيروت، عند الاستفسار عن حقيقة موقف باريس، نفي أيّ تجاوز للقرارين الدوليَّين، وأنّ الموقف الفرنسي قريب من الموقف الأميركي، والغربي عموماً، في شأن لبنان.
تواصلت أكثر من جهة في بيروت مع الجانب الفرنسي في شأن حقيقة تبنّيها الصياغة اللبنانية لمسوّدة القرار، فجاء أحد الأجوبة، حسب رواية إحدى هذه الجهات، أنّ المندوبة الفرنسية في الأمم المتحدة المعيّنة حديثاً استشارت أحد موظّفي الخارجية المناوبين في باريس وجرى الأخذ بالصياغة اللبنانية، ثمّ جرى التراجع عنها بعد التدقيق فيها وبعد الصياغة التي جرى التصويت عليها بالإجماع في المجلس.
إقرأ أيضاً: اليونيفيل “تتحرّر” من الجيش… وتَعِدُ بـ”مسايرته”
محاولة “تهريبة” تشير إلى ما هو آتٍ؟
يُنتظر أن تبقى الصياغة اللبنانية التي تتجنّب القرارين 1559 و1680 في إحدى الفقرات، واتفاق الطائف مع القرارين في فقرة أخرى، موضوع متابعة، نظراً إلى أنّها سابقة تهدف إلى خدمة هدف سياسي معيّن، ولأنّها ليست منبثقة عن موقف حكومي أو عن إجماع لبناني في وقت لاذت رئاسة الجمهورية بالصمت في هذا الصدد. وفي اعتقاد الأوساط السياسية التي تلاحق تفاصيل ما حصل أنّه محاولة “تهريبة” لإلزام الدولة اللبنانية بخدمة هذا الهدف، ومؤشّر إلى ما يمكن أن يكتنف المرحلة المقبلة، سواء على مستوى الرئاسة أو الحكومة، من ممارسات في مؤسّسات الدولة على صعيد توجّهاتها وعلاقتها مع المجتمع الدولي ومع ثوابت لبنانية، من أجل تطويع هذه المؤسّسات كي تتناغم مع رغبات الحزب وتوجّهاته. وما يدفع هذه الأوساط إلى الحديث عن “محاولة تهريبة” هو عدم إطلاع بعض المعنيّين، ممن لهم رأي في أمور كهذه، على النصوص.