أدّت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تغيير الكثير ممّا يدّعي العالم معرفته، ليس عن العمليات والاستراتيجيات العسكرية فقط، بل أيضاً عن الدبلوماسية والاستخبارات والأمن القومي وأمن الطاقة والسياسة الاقتصادية وغير ذلك الكثير.
مع وصول الحرب إلى نصف عامها، عرض خبراء من “شبكة المجلس الأطلسي”* للولايات المتحدة أكبر الدروس التي أفضت إليها الحرب وتوفّر أساساً مفيداً واسع النطاق لواضعي السياسات والجمهور.
في الحلقة الثانية خلاصات تفيد بأنّ الدولار يحتاج إلى الحلفاء، كي يبقى قوياً، بقلم جوش ليبسكي، وتحليل يتناول “قوّة الدعاية الأوكرانية” في الفوز بالرأي العامّ العالمي، بقلم جنيفر كونتر، وأسباب خسارة روسيا معركة “السوشيل ميديا”، بقلم أرون آير، وكيف أنّ أوروبا ستُشفى من الإدمان على الغاز الروسي، بقلم أولغا خاكوفا، وكيفيّة تحوُّل أوكرانيا إلى “درس تاريخي”، بقلم مارك بوليميروبولوس.
1ـ درس الاقتصاد العالميّ: أدوات الصراع الجديدة.. اقتصاديّة
عندما غزت روسيا أوكرانيا، أوضح الرئيس الأميركي جو بايدن أنّ الولايات المتحدة لن تتدخّل عسكرياً وبشكل مباشر. لكنّ هذا لا يعني أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها لم يجدوا السبيل للمساعدة.
بدلاً من التدخّل العسكري، قرّرت مجموعة الدول السبع (G7) تجميد ما يقرب من 350 مليار دولار من الأصول الروسية. يمثّل هذا المبلغ حجم اقتصاد النمسا كاملاً تقريباً.
صدمت هذه الخطوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومصرفه المركزي، وفرضت ضغوطاً هائلة على الاقتصاد الروسي، ولفتت أيضاً أنظار العالم: تمتلك معظم البلدان بعض الاحتياطيات بالدولار واليورو، وهي الآن تفكّر مليّاً في المخاطر التي تتعرّض لها هذه الأصول في حال حدوث أزمة مستقبلية.
لكن مع انحياز الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، لا ترى البلدان العديد من البدائل (في الوقت الحالي). فالرنمينبي الصيني (الاسم الرسمي للعملة الصينية، وتعني الكلمة “عملة الشعب”) ليس خياراً قابلاً للتطبيق كعملة دولية حقيقية. إذاً ما هي نتيجة الاقتصاد العالمي؟
الولايات المتحدة، والدولار، أقوى مع حلفائهما..
(1) جوش ليبسكي: المدير الأوّل لمركز GeoEconomics.
أدّت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تغيير الكثير ممّا يدّعي العالم معرفته، ليس عن العمليات والاستراتيجيات العسكرية فقط، بل أيضاً عن الدبلوماسية والاستخبارات والأمن القومي وأمن الطاقة والسياسة الاقتصادية
2 ـ درس للتواصل الاستراتيجيّ في زمن الحرب: عمليّات التأثير عمل يوميّ
على الرغم من التحدّيات التي تواجهها، تمكّنت الحكومة الأوكرانية من وضع خطّة اتصالات استراتيجية ومواصلة تنفيذها لحشد الدعم الدولي وتحفيز الثقة بقدرتها على قيادة البلاد وتشويه سمعة روسيا. ليس هذا النوع من الحملات مثيراً: إنّها وظيفة طويلة الأمد، يوماً بعد يوم، لمشاركة نقاط الحوار مع المتّصلين، وتحديد الناس المستهدَفين لإقناعهم، وجمع البيانات، ثمّ التواصل مع الصحافيين والشخصيات السياسية والمؤثّرين الذين يمكنهم نشر رسالة الحكومة.
لكنّ أفضل ما أنجزه الأوكرانيون هو أنّ شبكة واسعة من الأشخاص الذين يتابعون توجيه الرسائل الحكومية يشاركون في الحملة بطرق يمكن لشبكاتهم الفردية فهمها، وبالتالي بناء دعاة جدد وتعزيز قاعدة دعم أوكرانيا.
قد يكون الرئيس زيلينسكي هو النقطة المحورية في هذه الحملة، لكنّه ليس بأيّ حال الشخص الوحيد الذي يواصل توجيه الرسائل. كلّ يوم يشعر الناس في جميع أنحاء العالم (وليس الأوكرانيون فقط) بالقدرة على الدفاع عن أوكرانيا وتشويه سمعة روسيا.
تنتشر الصور، بما في ذلك اللونان الأزرق والأصفر للعلم الأوكراني ودوّار الشمس والأطفال الذين يحملون لافتات مناهضة للحرب، على نطاق واسع لدرجة أنّ الرسائل على وسائل التواصل الاجتماعي بما في ذلك هذا النوع من المرئيات لم تعد تتطلّب أيّ تفسير. وتستخدم الحكومة الأوكرانية الشهادات المباشرة ومقاطع الفيديو دليلاً يعزّز رسالتها. والأهمّ من ذلك أنّها لم تلجأ إلى التضليل على نطاق واسع كما فعلت روسيا.
يمكن أن يكون تماسك الحملة الأوكرانية وطول مدّتها هما السبب في نجاحها. وينبغي أن تكونا نموذجاً لِما يمكن للولايات المتحدة وحلفائها تحقيقه من خلال استراتيجية التأثير وانضباط الاتّصال والاستعداد للعمل يوماً بعد يوم لتحقيق الهدف النهائي.
(2) جنيفر كونتر: زميلة أولى غير مقيمة في مركز Scowcroft Center’s Forward Defense.
3 ـ درس الحرب المختلطة والمهجّنة: “لا تتجاهل الأساسيّات”
كانت “العملية العسكرية الخاصّة” التي قام بها فلاديمير بوتين فشلاً استراتيجياً بكلّ المقاييس تقريباً. وعلى الرغم من أنّ روسيا ما تزال تشكّل خطراً، لكنّها اليوم في أدنى نقطة من مسار نفوذها الناعم، قياساً إلى ما كانته خلال التاريخ الحديث، مع ردود فعل مناهضة من الدول المحايدة وحتى الدول التي تعتمد على الطاقة الروسيّة.
كان مؤثّراً جدّاً كشف جرائم الحرب، التي قامت بها القوات الروسية أمام العالم، وصدمت الجميع، باستثناء حلفاء الكرملين المخلصين. وتصميم حلف الناتو أقوى اليوم ممّا كان يتخيّل كثيرون. وبالتالي فقدت روسيا هيمنتها على “السرديّة” و”الحكاية”، وباتت أوكرانيا تضايقها بانتظام، وتقدّم مثالاً بديلاً للقيادة “العميقة”، في شخصية فولوديمير زيلينسكي.
كلّ يوم تستمرّ أوكرانيا في مقاومتها، وإن كان ذلك بتكلفة مروّعة لشعبها، هو إهانة إضافية لصورة روسيا، تتعارض مباشرة مع مكانتها الطموحة دائماً كـ”قوة عظمى”.
الوضع الحالي هو إلى حدٍّ كبير نتيجة تجاهل الكرملين أسس الحرب، بما في ذلك الدروس التي يمكن ملاحظتها علناً من التوغّلات الأميركية الأخيرة في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى.
أخطأت أجهزة المخابرات الروسية في تقدير تصميم أوكرانيا وقدراتها، فضلاً عن الخطأ في تقدير مستوى دعم المجتمع الدولي لأوكرانيا. وقد سبّب هذا خسائر مروّعة تكبّدتها روسيا في ساحة المعركة، بالتزامن مع الأهوال التي ارتكبها الجيش الروسي غير المحترف ضدّ الشعب الأوكراني.
الحرب الهجينة شبيهة بالمشرط وليس السكّين في متابعة التأثيرات الاستراتيجية. يتطلّب هذا المستوى من الدقّة وعياً قويّاً يقدّمه مجتمع استخبارات كفوء وموثوق به للإبلاغ عن الأخبار السيّئة.
نموذج الحكم الاستبدادي الروسي غير مناسب لذلك. لذلك أدّت أوجه القصور المماثلة إلى ضعف السيطرة على مجال المعلومات: الحملات الروسية “Z” و”المناهضة للنازية” جابهتها بسهولة أوكرانيا المختصّة التي تعرف بوضوح خصمها وقادرة على الردّ بفعّالية على رسائله من خلال حملات وسائل التواصل الاجتماعي، إلى جانب التواصل على نطاق أوسع مع المجتمع العالمي.
(3) أرون آير: زميل أوّل غير مقيم في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والدفاع الأمامي التابع لممارسة الأمن. شغل مناصب القيادة العملياتية مع وزارة الدفاع الأميركية من 2005 إلى 2020.
بدأت أنظمة الطاقة الأوروبية، في وقت قياسي، رحلة “الاستقلال” عن النفط والغاز الروسيَّين. هذا التحوّل غير المسبوق ليس سهلاً وسيكون مكلفاً، ويستغرق تحقيقه سنوات في البلدان التي تعتمد على الطاقة الروسية
4 ـ درس الطاقة: عقود من الدبلوماسيّة.. تنتهي بغزو وحشيّ
جهود جذب روسيا إلى حظيرة جيرانها الغربيين الديمقراطية من خلال عقود من التكامل الاقتصادي وتجارة الطاقة بمليارات الدولارات، فشلت في منعها من شنّ حرب وحشيّة لا معنى لها ضدّ أوكرانيا.
نتيجة لذلك بدأت أنظمة الطاقة الأوروبية، في وقت قياسي، رحلة “الاستقلال” عن النفط والغاز الروسيَّين. هذا التحوّل غير المسبوق ليس سهلاً وسيكون مكلفاً، ويستغرق تحقيقه سنوات في البلدان التي تعتمد على الطاقة الروسية.
في الوقت نفسه، سيؤدّي الارتفاع الصاروخي في تكاليف الطاقة، والتخفيضات الإلزامية، وعدم اليقين العامّ بشأن إمدادات الطاقة هذا الشتاء، إلى إغراءات الانزلاق مرّة أخرى إلى نير الاعتماد على الطاقة الروسية. لكنّ مخاطر العودة إلى “دبلوماسية الطاقة” لن تكون سهلة، وستكون موسكو عدوانيّة في تسييس هذا الملفّ.
أدّت الانقطاعات في الإمدادات وانخفاضها في جميع أنحاء أوروبا إلى تحطيم ما تبقّى من “الثقة” بروسيا، فكثّفت الدول الأوروبية جهودها لتوفير الوقود الأحفوري بدلاً من الاستثمار في تنويع مصادر الطاقة.
بغضّ النظر عن نتيجة الحرب والتغييرات المحتملة في القيادة في روسيا، فإنّ الاستغناء عن روسيا يتّجه نحو نقطة اللاعودة. لا يمكن التقليل من التكاليف والتحدّيات القصيرة الأجل لهذا التحوّل الهائل. لكنّ إنشاء أنظمة طاقة موثوقة ومرنة ومنخفضة الكربون ومعقولة التكلفة، لا يمكن تهديدها أو التلاعب بها من قبل المورّدين الاحتكاريين، ستفيد المجتمع الأوروبي بأسره.
(4) أولغا خاكوفا: نائبة مدير أمن الطاقة الأوروبيّة في مركز الطاقة العالمي.
5 ـ درس للاستخبارات العالميّة: روسيا ليست “عُظمى“
قبل ستّة أشهر كان هناك عدد كبير من التحليلات الكارثية: لم يكن بوتين وحده من أكّد الفكرة القائلة إنّ الجيش الروسي يمكن أن يستولي على كييف في غضون 36 ساعة فحسب، بل شاركه الرأي أيضاً محلّلون غربيون من الأكاديميين وخبراء أجهزة المخابرات.
أخطأ الجميع تقريباً باستثناء الكيان الوحيد الأكثر أهمية: الأوكرانيون، الذين قاتلوا بشجاعة وإجماع تقريباً معتقدين أنّهم سينتصرون. تحوّلت حرب روسيا الخاطفة إلى مستنقع سوف يُسجّل في التاريخ العسكري، إذ سقط 80 ألف قتيل روسي ولا تلوح في الأفق نهاية لـ”عملية بوتين الخاصة”.
على القدر نفسه من الأهميّة فشلت جهود الحرب الهجينة الروسية في أوكرانيا، ولا سيّما في مجال المعلومات. كانت جهود موسكو السابقة في جميع أنحاء العالم، مثل تدخّلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، تبعث على الخوف (وربّما كانت كذلك حقّاً). لكنّ روسيا نجحت في الماضي بشكل أساسي لأنّها عملت بلا إثارة ردّ فعل عنيف في جميع أنحاء العالم.
هذا تغيّر اليوم: تبدو أوكرانيا الآن متقدّمة بخطوة واحدة في كلّ منعطف. خذ في الاعتبار قيام خبير بوزارة الدفاع الأوكرانية بالتغريد على تويتر بعد ضربة مفترضة للقوات الأوكرانية على مطار روسي في عمق شبه جزيرة القرم المحتلّة: شوهد السيّاح الروس وهم يفرّون من الشاطئ على صوت أغنية Summer Cruel (الصيف القاسي) لفرقة Bananarama الصادرة عام 1983.
إقرأ أيضاً: دروس حرب أوكرانيا(1): واشنطن في مواجهة بكين وموسكو وطهران
لقد تغيّر الزمن: أوكرانيا تقايض روسيا، وليس العكس. هذا هو بالضبط ما كان مطلوباً في مجال العمليات الإعلامية: استراتيجية هجومية استباقية لا ردّة فعل.
(5) مارك بوليميروبولوس: زميل غير مقيم في مركز Scowcroft للاستراتيجيات والأمن التابع للمجلس الأطلسي، وعمل 26 عاماً في وكالة الاستخبارات المركزية.
* المجلس الأطلسي Atlantic Council)): مؤسسة بحثية غير حزبية مؤثّرة في مجال الشؤون الدولية. تأسست عام 1961، ويوفّر المجلس منتدى للسياسيّين ورجال أعمال ومفكّرين عالميّين. وتدير المؤسسة 10 مراكز إقليمية وبرامج وظيفية تتعلّق بالأمن الدولي والازدهار الاقتصادي العالمي. مقرّها الرئيسي في واشنطن دي سي بالولايات المتحدة.
في الحلقة الثالثة والأخيرة غداً:
بوتين لم يكذب.. أوروبا لم تصدّق.. وأميركا صادقة.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا