أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تغيير الكثير مما يدعي العالم معرفته، ليس عن العمليات والاستراتيجيات العسكرية فقط، بل أيضاً عن الدبلوماسية والاستخبارات والأمن القومي وأمن الطاقة والسياسة الاقتصادية وغير ذلك الكثير.
مع وصول الحرب إلى نصف عامها، عرض خبراء من “شبكة المجلس الأطلسي” للولايات المتحدة أكبر الدروس التي أفضت اليها الحرب، وتوفر أساساً مفيداً واسع النطاق لواضعي السياسات والجمهور.
في الحلقة الأولى استنتاجات حول “ضمور” قوّة “الردع” الأميركي، بقلم وليام ف. ويشسلر، ونصائح لمواجهة خصوم أميركا “معاً”، بقلم ماثيو كروينيغ، وتعداد لأسباب الفشل الروسي العسكري، بقلم العقيد جون بوس بارانكو، ودرس عن كيف تهزم الأسلحة الذكية الدفاعية القوات الكبيرة، بقلم هانس بيننديك، وتقييم يجزم بأنّ “نشر القوات أفضل من التهديد بعقوبات”، بقلم هانز بينينديك.
1. درس سياسة أميركا الخارجية: نهاية “الغموض الاستراتيجي”*
عندما تمتلك دولة ما قوة أكبر بكثير من خصمها، فإن سياسة الغموض الاستراتيجي يمكنها أن تجعله يتردد في اتخاذ إجراءات قد تؤدي إلى الانتقام منه، خاصة إذا كانت الدولة الأقوى تتمتع بسمعة تمكُّنِها من الرد بشكلٍ غير متوقع أو غير متناسب. ولكن عندما يُنظر إلى القوة النسبية لدولة ما على أنها في حالة تدهور، فإن سياسة الغموض الاستراتيجي يمكن، على العكس من ذلك، أن تلهم المغامرة في الخصم – لا سيما إذا كان ينظر إلى القوة المتراجعة على أنها تنسحب، أو تبدو ضعيفة أو مشتتة.
نظمت الولايات المتحدة “ترسانة ديمقراطية” فعالة للدفاع عن أوكرانيا
لقد منحت المدة الطويلة للقوة الأميركية صانعي القرار الأميركيين رفاهية تبني سياسات تتسم بالغموض الاستراتيجي. لكن تلك الأيام ولّت للأسف، كما يتضح من غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوكرانيا، من دون أن تردعه الإشارات الغامضة المتعمدة التي أرسلتها الولايات المتحدة خلال العقود السابقة حول طبيعة التزامها بالسيادة الأوكرانية. وكذلك شجع بوتين إدراكه ضعف الولايات المتحدة في أعقاب انسحابها من أفغانستان واختلالات سياساتها الداخلية.
هذا درس مهم لصناع السياسة الأميركيين الذين قد يفضلون التمسك بالغموض الاستراتيجي عند محاولتهم ردع الغزو الصيني لتايوان، على سبيل المثال، أو عدوان إيران على الخليج. اليوم، هناك تصريحات أكثر وضوحاً حول الخطوط الحمراء للولايات المتحدة، التي من المرجح في البيئة الحالية أن تساعد في منع التصعيد بدلاً من استفزازه.
* بقلم وليام ف. ويشسلر: مدير أول لمركز رفيق الحريري وبرامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي.
****
2. درس للأمن القومي: على واشنطن مواجهة بكين وموسكو وطهران معاً
وصلت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى السلطة معتقدة أنها تستطيع تحقيق الاستقرار في العلاقات مع روسيا، ما يجعلها “مستقرة ويمكن التنبؤ بها”، مع إعطاء الأولوية للمنافسة مع الصين كجزء من سياستها للأمن القومي. لكن موسكو كانت لديها أفكار أخرى: حين شنّ بوتين أكبر حرب برية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ذكّر واشنطن بمدى ارتباط أمنه وازدهاره بالسلام والاستقرار في أوروبا. فاُضطرت إدارة بايدن إلى إعادة كتابة استراتيجيتها للأمن القومي (التي لم تصدرها بعد، رغم مرور أكثر من عام ونصف على بداية ولاية بايدن) لأنّ النسخة الأولى تجاهلت روسيا.
يجب أن تكون الصين أولوية، لكن الولايات المتحدة تظل قوة عالمية ذات مصالح عالمية. ويجب أن تعكس استراتيجيتها للأمن القومي هذا الواقع. يجب أن يتصدى النهجُ الفعال للتهديدات الخطيرة التي تشكلها الصين وكوريا الشمالية في المحيطين الهندي والهادئ، وإيران في الشرق الأوسط، وروسيا في أوروبا. هذه التهديدات مترابطة – حيث تعمل روسيا والصين وإيران معًا بشكل متزايد. والنجاح في أحد هذه المسارح يعزز قوة الولايات المتحدة في تعاملها مع الآخرين، ولا يقوّضها.
*بقلم ماثيو كروينيغ: مدير بالنيابة لمركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن.
****
3. درس العمليات العسكرية: الرجال يكسبون الحرب.. لا الآلات
أنفقت روسيا حوالي 65 مليار دولار على الدفاع في عام 2021، أي أكثر من عشرة أضعاف ما انفقته أوكرانيا في ذلك العام. لو كانت المعدات هي العامل الحاسم، لكانت روسيا قد حققت النصر الساحق بسرعة البرق التي سعت إليها منذ أشهر. لكن أوكرانيا أظهرت في هذه الحرب أن القيادة الجيدة والتدريب الجيد الذي تتمتع به كثيراً – بينما روسيا لديها القليل جدًا منهما – يحدثان فرقاً كبيراً.
تسعى أوكرانيا لاستعادة أكبر قدر ممكن من أراضيها المحتلة، لكن ذلك لن يكون سهلاً
نظرًا لأن كلا البلدين يشتركان في تقليد عسكري طويل يعود إلى الإمبراطورية الروسية، فإن الاختلاف في أداء كل منهما في ساحة المعركة (وأسباب هذا الاختلاف) مفيد.
منذ عام 1993، كانت أوكرانيا جزءًا من “برنامج شراكة الدولة”، التابع للحرس الوطني الأميركي. فدُربت قواتها المسلحة وفقاً للنموذج الأميركي: إصدار أوامر من نوع المهمة إلى صغار الضباط وضباط الصف (NCOs)، توضح نية القائد، وتمكنه من اتخاذ قرارات فورية بناءً على الحقائق المتغيرة على الأرض.
لا أحد يصبح خبيراً في صنع قرارات القتال بين عشية وضحاها، لذلك تُجرى تمارين واقعية وتُعزز ثقافة المبادرة العملية الفردية التي تتطلب تقييماً صارماً. هذا الأسلوب المفتوح والشفاف أدّى إلى تحسين الروح المعنوية الأوكرانية والأداء الإوكراني في ساحة المعركة.
في المقابل، تفتقر القوات المسلحة الروسية (التي تعتمد اعتمادًا كبير على المجندين) إلى ضباط الصف المحترفين، ومبادرتها وردود فعلها ضعيفة. فسلطة اتخاذ القرار لا تزال شديدة المركزية، ولا يُسمح إلا لكبار الضباط بالتصرّف بشكل مستقل.
هذا هو السبب في مقتل كثرة من الجنرالات الروس في هذه الحرب. لم تكن لدى أي شخص خبرة من المستوى الأدنى في القيادة، أو فهم للصورة الإجمالية، أو سلطة التصرف بشكل حاسم، عندما لا تسير الأمور وفق الخطة المرسومة. كانت الطريقة الروسية في الحرب متوقعة: فشل في ساحة المعركة وانخفاض الروح في المعنوية.
* بقلم العقيد جون بوس بارانكو: كان زميلًا بارزًا في سلاح مشاة البحرية الأمريكية من 2021 إلى 2022 في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن التابع للمجلس الأطلسي.
****
4. كيفية التخطيط العسكري: الأسلحة الذكية الدفاعية “أقوى” من القوات الكبيرة
نظمت الولايات المتحدة “ترسانة ديمقراطية” فعالة للدفاع عن أوكرانيا.
– في معركة كييف: دمرت الدبابات الروسية وناقلات الجنود وشاحنات الإمداد والمروحيات والطائرات المقاتلة بواسطة وحدات دفاعية أوكرانية صغيرة ومتحركة مزودة بأسلحة مثل Stingers و Javelins و NLAWs وطائرات بدون طيار. بينما هُزمت قوة روسية من القرن العشرين، ثقيلة على المنصات، في وجه قوة خفيفة من القرن الحادي والعشرين.
– في معركة دونباس: كانت المدفعية الروسية في القرن العشرين متفوقة بشكلٍ كبير على تلك الموجودة في أوكرانيا، إلى أن أدخل عدد صغير نسبياً من أنظمة الصواريخ عالية الحركة، الأميركية الصنع (HIMARS) فدمرت قدرتها الضاربة الدقيقة عدداً كبيراً من مستودعات الذخيرة الروسية ومقارها، من بين وحدات أخرى، ما أدى إلى إبطاء التقدم الروسي.
– في البحر الأسود: فاق عدد السفن البحرية الروسية عدد بقايا قطع البحرية الأوكرانية. ولما أُدخلت صواريخ نبتون الأوكرانية الصنع وصواريخ هاربون الأميركية، أجبرت البحرية الروسية على التراجع. وهذه كلها كانت مواقف دفاعية بشكلٍ أساسي لأوكرانيا.
اليوم، تسعى أوكرانيا لاستعادة أكبر قدر ممكن من أراضيها المحتلة، لكن ذلك لن يكون سهلاً. ستستخدم القوات الأوكرانية العديد من أنظمة الضربات الدقيقة في محاولتها استعادة خيرسون ودونباس، لكنها ستتقدم أيضًا ضد مواقع دفاعية روسية قوية. لقد نجح هذا في البداية بشكل جيد بالنسبة للقوات الأميركية قبل عقدين من الزمن، عندما نفذت عمليات هجومية ضد المتمردين العراقيين والأفغان. لكن يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكان القوات الأوكرانية أن تنجز هذا العمل. ستحدد النتيجة ما إذا كان بإمكان بوتين أن يدعي درجة معينة من النجاح في مغامرته القاسية.
*هانس بيننديك: زميل متميز في مركز سكوكروفت Scowcroft للاستراتيجيات والأمن.
****
5. درس الردع: نشر القوات أفضل من التهديد بعقوبات
مع تجمع القوات الروسية لغزو أوكرانيا في وقتٍ مبكر من هذا العام، اعتقد كثرٌمن محللي الدفاع أن التهديد بفرض عقوبات اقتصادية قاسية سيكون كافياً لردع هجوم روسي. لكن لدى بوتين، تفوق الطموحات الإقليمية أي ضررٍ محتمل قد تسببه العقوبات الغربية للاقتصاد الروسي. ففي حين عانى الاقتصاد الاستهلاكي الروسي من أضرارٍ جسيمة، تعزز الروبل وازدات احتياطيات النقد الأجنبي بسبب ارتفاع أسعار النفط وتطور الأسواق الروسية. وبدا أن حكم بوتين كان صحيحاً، أقله في المدى القصير.
في المقابل، أوضح قادة الناتو أنهم لن يلتزموا بنشر قوات للدفاع عن أوكرانيا، ما دفع بوتين إلى سوء التقدير على جبهتين: قلّل من قدرة الأوكرانيين على الدفاع عن أنفسهم، ومن ورغبة الغرب في تسليحهم بسرعة. لذا تعلم مسؤولو الدفاع الغربيون درساً من حقبة الحرب الباردة: ما يردع العدوان الروسي هو قوات الناتو على الجانب الشرقي للحلف، وليس التهديد بفرض عقوباتٍ اقتصادية.
كان يمكن لقوات الحلف لو انتشرت في أوكرانيا، أن تردع الغزو. أو ربما كانت بداية الحرب العالمية الثالثة. لكنّ نشر القوات إلى الأمام على أراضي الناتو الآن يضمن أن بوتين لن يخطئ التقدير مرةً أخرى.
إقرأ أيضاً: فشل العقوبات الغربيّة على روسيا
كان حجر الزاوية في قمة الناتو الأخيرة هو محاولة استيعاب هذا الدرس وتنفيذه. يتحول موقف حلف الناتو الرادع من “الردع بالعقاب” إلى “الردع بالإنكار”، ويتمركز الحلفاء في المقدمة لمنع روسيا من احتلال أي جزء من أراضي الناتو. ونُشرت الآن مجموعات قتالية تابعة للناتو بحجم كتيبة من قوات ثمانية حلفاء في الخطوط الأمامية، بينما زادت القوات الأميركية في أوروبا إلى مائة ألف.
يعتقد كثر أنه لا يزال يتعين القيام بالمزيد لضمان الردع عن طريق الإنكار. على سبيل المثال، من خلال نشر لواء أو حتى قوات حلف شمال الأطلسي على مستوى الفرقة في دول الحلفاء في الخطوط الأمامية.
*هانز بينينديك: عضو بارز في مركز سكوكروفت للاستراتيجية والأمن.
في الحلقة الثانية غداً:
أوروبا ستُشفى من إدمان غاز روسيا
لقراءة النصّ الأصلي: إضغط هنا
*المجلس الأطلسي : (Atlantic Council) مؤسسة بحثية غير حزبية مؤثرة في مجال الشؤون الدولية. تأسست عام 1961، ويوفر المجلس منتدى للسياسيين ورجال أعمال ومفكرين عالميين. وتدير المؤسسة 10 مراكز إقليمية وبرامج وظيفية تتعلق بالأمن الدولي والازدهار الاقتصادي العالمي. مقرها الرئيسي في واشنطن دي سي بالولايات المتحدة.