باسيل يسدّد قرضه: في الأزمة رابحون أيضاً

مدة القراءة 7 د

زلّ لسان جبران باسيل في مقابلته الأخيرة مع عماد مرمل في 22 تمّوز الماضي حين كشف عن جانب مخفيّ من وضعه الماليّ الشخصيّ. قال بالحرف إنّه واحد من لبنانيّين كُثُر كان عليهم دين و”نتيجة الأزمة سكّروا ديونهم”.

كان يمكن للكلام أن يكون عابراً لولا أنّه مرتبط بقصّة أكبر. أواخر عام 2017 كشف جبران باسيل عن حساباته في المصارف اللبنانية (حصراً وليس الأجنبية)، في تقرير للزميل آدم شمس الدين على قناة الجديد. تبيّن حينئذٍ أنّه حاصل على قرض من بنك بيبلوس بقيمة 2.7 مليون دولار. كان الرجل يحاول أن يثبت أنّه لم يجمع ثروة من العمل السياسي، وأنّه مدين بائس.

يُحسب للرجل أنّه كشف شيئاً ممّا ليس من عادة السياسيّين كشفه، لكنّه لم يوضح حينذاك وجهة استخدام القرض الضخم أو الضمانات المقدّمة للحصول عليه. وغنيٌّ عن الإشارة أنّ البنك لا يقرض الملايين إلا لِمن لديه ثروة بملايين أكثر. هذه “ألف باء” العمل المصرفي. لكنّ التقرير ذكر أنّ لدى باسيل 37 عقاراً عزاها الرجل إلى أنّ جدّه كان “ملّاكاً” في البترون، وأنّه، أي جبران الحفيد، يقوم بأنشطة البناء والبيع منذ أن كان في سنّ الثالثة والعشرين. واللافت أنّه رفض آنذاك الإفصاح عن تصريح الثروة الذي قدّمه للمجلس الدستوري حين تولّى الوزارة للمرّة الأولى عام 2008، مع أنّ ذلك كان كفيلاً بإيضاح ما ورث عن جدّه وما جناه بعرق جبينه السياسي.

باسيل ليس إلا واحداً من طبقة كبيرة من رجال الأعمال و”السوبر متموّلين” الذين استفادوا من الأزمة للتخلّص من قروض بالملايين أو بعشرات الملايين من الدولارات، فيما هو نفسه يدعو إلى مصارحة المودعين بأنّ جزءاً كبيراً من أموالهم ذاب وانتهى

ليست ثروة جبران موضوع هذا المقال، إذ إنّ تقرير “الجديد” لم يثبت شيئاً من نزاهة الرجل أو فساده، فما يُعوَّل عليه ليس إلّا الكشف عن كامل الذمّة الماليّة، من حسابات بنكية في الداخل والخارج، وعقارات وشركات، وما تملكه الشركات من حسابات وأصول. وواضح أنّ باسيل ليس في وارد تصريح كهذا للرأي العامّ.

ما يعنينا هنا هو تصريح باسيل بأنّه استفاد من الأزمة الراهنة لسداد دينه من دون أن يكشف كم كانت قيمته حين اندلعت شرارة الأزمة. وهذا إقرار له تبعاته الحسّاسة على رجل في مثل موقعه السياسي، تقع على عاتقه مسؤوليّة أساسية في صياغة السياسات المتعلّقة بمعالجة خسائر الأزمة (وأرباحها) وإعادة أموال المودعين.

 

“السوبر متموّلون”

باسيل ليس إلا واحداً من طبقة كبيرة من رجال الأعمال و”السوبر متموّلين” الذين استفادوا من الأزمة للتخلّص من قروض بالملايين أو بعشرات الملايين من الدولارات، فيما هو نفسه يدعو إلى مصارحة المودعين بأنّ جزءاً كبيراً من أموالهم ذاب وانتهى.

بحسب أرقام مصرف لبنان، كان حجم القروض الممنوحة للقطاع الخاص المقيم بالدولار الأميركي (وليس بالليرة) يفوق 34.7 مليار دولار في الشهر السابق لاندلاع ثورة 17 تشرين الأول 2019. بعد أقلّ من ثلاث سنوات بقي من رصيد هذه القروض 12.4 مليار دولار فقط، بحسب بيانات مصرف لبنان لشهر حزيران 2022.

أمّا القروض بالليرة، فكان رصيدها في أيلول 2019 نحو 23.9 تريليون ليرة، وبقي منها في حزيران 2022 نحو 16.9 تريليون ليرة فقط.

إذاً تمكّن المقترضون من تصفية 22.4 مليار دولار من قروضهم بالدولار ونحو 7 تريليونات ليرة من القروض بالعملة المحلّية.

لا غبار على سداد القروض بالليرة، لأنّ نشأتها كانت بهذه العملة، ومن حقّ المقترض أن يسدّد بالعملة التي اقترض بها. لكنّ الإشكال الأخلاقي والسياسي يتعلّق بالقروض الدولارية، ومنها قرض جبران باسيل.

فهذه القروض تمّ سدادها بالليرة على سعر الصرف الرسمي البعيد عن واقع السوق، أو عبر شراء شيكات مصرفية من مودعين بحسومات بدأت في الأشهر الأولى من الأزمة بـ 20% أو 30%، وباتت الآن تقارب 90%. وبين من استفادوا من عمليّات السداد هذه شركات كبرى ووجهاء في السياسة والمجتمع معروفون بالاسم.

وحين رفضت بعض البنوك ذلك علت أصوات نيابية مشبوهة تصرّ على استمرار السداد بالليرة، مع علمهم أنّ الخسارة من هذه العملية لن تقع على أصحاب البنوك، بل على المودعين، ببساطة لأنّ البنوك لا تقرض من أموالها الخاصة، بل من الودائع التي تتلقّاها من عملائها. فعندما يسدّد المقترض قرضه بنصف قيمته أو ربعها أو أقلّ فهذه ليست شطارة على مالك البنك، بل على المودعين.

بكلام آخر، أدّت تصفية 22.4 مليار دولار من القروض الدولارية بثمن بخس إلى إضعاف إضافي لملاءة البنوك، ووجّه ضربة قاضية لقدرتها على إعادة نسبة، ولو ضئيلة، من الودائع. وهذا ليس إلا وجهاً من وجوه انتقال الثروة من المودعين إلى المقترضين بغطاء قانوني.

كيف نعالج؟

لا يُلام المقترضون العاديون، ولا سيّما أصحاب الدخل المحدود ممّن اقترضوا لشراء شقّة أو سيارة، لأنّ النظام سمح بانتهاز الفرصة. بل إنّ المعروف أنّ فئة صغيرة من المقترضين والشركات الكبرى، لا تتجاوز بضعة آلاف، تتركّز بيدها 90% من المليارات التي أقرضتها البنوك.

ثمّة أدوات متاحة لمعالجة هذا الاختلال من خلال أدوات ضريبية، كأن يتمّ فرض ضريبة ثروة على الشركات والأفراد الذين سدّدوا قروضاً دولارية بقيمة تفوق حدّاً معيّناً بعد 17 تشرين، (قد يكون 100 ألف دولار أو أكثر، أسوة بالحدّ المضمون من الودائع)، على أن تذهب عوائد هذه الضريبة إلى الصندوق السيادي المقترح لإعادة الودائع، والذي يفترض أن يدخل إليه ما يُستعاد من الأموال المنهوبة، وبعض أصول الدولة القابلة للاستثمار.

لكنّ الإشكال يقع في تعارض المصالح، إذ هل يتوقّع المودعون أن يتبنّى سياسيّ بوزن باسيل الدفاع عن مصالحهم بعدما كان أحد المستفيدين من الأزمة للتخلّص من دين ضخم؟ هل يتبنّى مطلباً لاستعادة أموال القروض الدولارية أسوةً باستعادة أموال الودائع المهرّبة إلى الخارج بعد 17 تشرين واستعادة الأموال المنهوبة؟

بين سداد القروض الدولارية وتهريب الودائع مشترَك واضح: كلاهما فعلٌ لاأخلاقي تمّ بغطاء قانوني على حساب مصالح المودعين العالقة أموالهم في البنوك. فالمنظومة السياسية منعت إقرار قانون الكابيتال كونترول لتتيح للبنوك الاستمرار بتهريب الأموال للمحظيّين من أصحاب “السوبر واسطة”، والمنظومة نفسها لم تتحرّك لإقرار تشريع يوقف السداد بسعر الصرف الرسمي الوهمي، الذي تحوّل إلى غطاء لاختلاس الأموال العامّة وأموال المودعين.

 

أكبر عملية تهريب أموال

ما كشفه باسيل من أنّه سدّد “ديونه” قبل فرض العقوبات الأميركية لأنّه كان يتوقّعها، على حدّ قوله، يعني أنّ السداد تمّ قبل تشرين الأول 2020، أي في السنة التي شهدت أكبر عملية تهريب أموال من المصارف إلى الخارج، بتمويل وغطاء من مصرف لبنان. وهذا يطرح إشكالات أساسية في مسؤوليّته السياسية المرتبطة بالأزمة الماليّة والمصرفية.

يركّز التيار العوني في خطابه السياسي على استعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج، والتي تراوح تقديراتها بين 9 و15 مليار دولار. وهذا خطاب محقّ وأخلاقي، لكن ماذا عن تصفية 22.4 مليار دولار من القروض بقيمة بخسة؟ ألا يضرّ ذلك بالمودعين؟

إقرأ أيضاً: باسيل توعّد بـ”مشكل كبير بالبلد”.. كيف يردّ السُنّة؟

المعضلة الأخلاقية الأخرى التي تُطرح على باسيل أنّه هو بالذات يركّز هجومه على رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بدعوى أنّه استفاد من القروض المدعومة من مصرف لبنان، ويعتبر ذلك فعل فساد شنيع، فماذا يُسمّى تسديد قرض على حساب المودعين ومصالحهم؟

خرّبت الأزمة المصرفية بيوتاً كثيرة في لبنان، لكنّ بين السياسيّين من صنع منها الملايين، ويكاد لا يخفي ذلك. هكذا تنتقل الثروة وفق موازين السلطة والنفوذ.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…