الحيويّة السنّيّة و”الحقوق” العونيّة!

مدة القراءة 7 د

ستتّضح خلال المقالة العلاقة التي أقصدها بين الحيويّة السنّيّة أو نقصها وضعفها من جهة، والحقوق العونيّة المكتسَبة من جهة أخرى. لكنّني أريد في البداية أن أتعرّض لحَدَثٍ جرى قبل ثلاثة أيام عندما زار السفير الإيراني الجديد مفتي الجمهورية وتحدّث إليه بحسب قوله عن الوحدة الإسلامية، فلمّا خرج صرّح أمام دار الفتوى للإعلام أنّه زار “مفتي السُنّة” وتبادل معه الحديث عن كذا وكذا.

منذ العام 1920 تاريخ قيام دولة لبنان الكبير صار لقب مفتي بيروت مفتي الجمهوريّة، واللقب رمزيّ، فلكلّ طائفةٍ إسلاميةٍ في لبنان مجلسها الخاصّ المستقلّ الذي فيه مراسيم جمهورية، وقد كانت الطوائف الإسلامية ثلاثاً (السنّة والشيعة والدروز)، فصارت أربعاً مع الاعتراف الرسمي بالطائفة العلويّة. لكن يبقى بالإضافة إلى الرمزيّة أنّ هناك مجلساً أعلى للقضاء الشرعي يرأسه مفتي الجمهورية، وأنّه يتقدّم في المناسبات الرسمية والعامّة. كلّ سفراء الدول العربية والإسلامية والأجنبية يزورون المقامات الدينية عندما يقدمون وعندما يغادرون، لأنّ للمقامات الدينية في لبنان بالذات أدواراً سياسيّةً وعامّة. والمفروض أنّ السفير الإيراني في لبنان يمثّل الدولة الإيرانية، وليس الطائفة الشيعية هناك أو في لبنان. لكنّه في كلمته أمام دار الفتوى كأنّه اعتبر نفسه ممثّلاً للشيعة، ولذلك خاطب السُنّة. وقد خاطب مفتي السُنّة وليس مفتي لبنان. ولو أنّ الظروف طبيعيّة لما تنبَّه أحدٌ لذلك، لكنّ العلاقات السنّية مع إيران ومع ممثّلي تنظيمها المسلَّح في لبنان شديدة التوتّر في العقدين الأخيرين. ولقد قاتلت التنظيمات الإيرانية المسلّحة والأخرى المتأيرنة العرب والسُنّة في لبنان وسورية والعراق. ولذلك شعر الرأي العامّ السنّيّ بالصدمة لِما اعتبروه استخفافاً لا يصحُّ أن يأتي من جانب دبلوماسي إيراني لا قائد في ميليشيا مسلَّحة! وليس صحيحاً أنّ السفير الجديد لا يعرف التقاليد والألقاب. إذ معه أعوانٌ لبنانيون وموظّفون قدامى في السفارة. ولذلك أُرجّح أنّه يعرف وإنْ كنتُ أكاد أجزم أنّه ما قصد الاستخفاف وإنّما هذه عادتهم في إيران أو آدابهم في مخاطبة “إخوانهم” من السُنّة تحت لواء دعوة الوحدة!

تخاذل رؤساء الحكومة وتراجعوا بعد حكومة الرئيس السنيورة الأولى واحتلال بيروت

منذ اغتيال حزب الله للرئيس رفيق الحريري عام 2005 حدثت هوّةٌ فاغرة الجنبات مع الحزب المسلَّح ثمّ مع الشيعة، وقد خفّف من حدّتها في السنوات الأولى صعود تيار وطني واسع تحت عنوان 14 آذار وثورة الأرز في مواجهة النفوذ السوري وسلاح الحزب، الذي كوّن مع العونيين وأنصار سورية معسكر 8 آذار.

تحطّم تحالف 14 آذار وصعد تحالف الراديكاليّتين الشيعية (بزعامة حزب الله) والمسيحية (بزعامة الجنرال ميشال عون)، وجرى احتلال بيروت من جانب حزب الله عام 2008، واستمرّت الاغتيالات في صفوف السُنّة البارزين حتى العام 2013، وأسقط الحزب المسلّح والجنرال عون حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى عام 2011، ثمّ مضى الحزب لمقاتلة الثوّار بسورية ومعظمهم من السُنّة. كلّ ذلك أشعر السُنّة بأنّهم وحدهم على المستوى الوطني، وأنّ الحزب أداة قهرٍ لهم وينصر الراديكالية المسيحية ضدّهم. أمّا الجنرال عون فقد تطوّرت دعوته الطائفية في اتّجاهين:

– اتجاه استعادة “حقوق المسيحيّين”، التي اعتبر أنّ اتفاق الطائف منحهم إيّاها، من السُنّة.

– واتجاه اعتبار السُنّة جميعاً إرهابيين (!). وقد انتهى الأمر بالإخضاع السياسي للسُّنّة عندما أعلن سعد الحريري عام 2016 دعم الجنرال عون مرشّح حزب الله لرئاسة الجمهوريّة، فانصرف عون وصهره إلى استصفاء الدولة ومواردها والوظائف العامّة والمشروعات الكبرى لمرشّحيه من التيار الوطني الحرّ، واستولى على وزارة الطاقة ثمّ الاتصالات. وقد سمعت في شتاء العام 2017 محاضرةً بالجامعة اليسوعية لمستشار رئيس الجمهورية الحالي سليم حريصاتي، وكان وقتها وزيراً للعدل، أنّه إذا لم يكن من الممكن تعديل الدستور فلا بدّ من الاحتيال عليه وتأويله.

في العام 2019، وكان العونيون قد أخذوا جهاز الدولة كلّه لجهة حصّة السُنّة، قال الوزير باسيل في زيارةٍ له للبقاع إنّ السُنّة هم خصوم المسيحيين الحقيقيين في الدولة! ويبلغ الأمر في وزارة الرئيس نجيب ميقاتي الحاليّة أن يكون وزير الاقتصاد أمين سلام من نقاط الخلاف بين ميقاتي والرئيس عون، وسلام هو من أصول سنّيّة، ويريد ميقاتي تغييره في الوزارة الجديدة، بينما يعترض الرئيس لأنّه من حصّته!

وبالطبع فقد توجّهنا جميعاً باللوم إلى الرئيس سعد الحريري الذي صنعتُ له منذ العام 2017 رُباعيّة: تفويت فسوء تقدير فسوء تدبير فتواطؤ! وكان هو يجيبنا: إصبروا عليّ يا جماعة، فرئيس الجمهورية شريك، ولا بدّ من إرضائه لكي تتشكّل الحكومة، لقد صارت له حصّتان: حصّة حزب جبران باسيل الكبيرة، وحصّة الرئيس شخصيّاً. وما كان يقوله الرئيس الحريري يقوله الآن الرئيس نجيب ميقاتي، فما عاد رئيس الحكومة هو الذي يشكّلها بحسب الدستور، بل يفعل الرئيس ما يريد مع الوزراء المسيحيين، وقد صار له بعض وزراء السُنّة من شركاء باسيل في التجارة والأعمال. ولذلك فقد شعرتُ الليلة السبت في 27/8 وأنا أكتب هذه المقالة بالغثيان عندما سمعت بياناً من القصر الجمهوري جاء فيه أنّ الرئيس يلتزم الدستور نصّاً وروحاً ولا يخرج عنه قيد أنملة!

لقد تخاذل رؤساء الحكومة وتراجعوا بعد حكومة الرئيس السنيورة الأولى واحتلال بيروت. وهذا أمرٌ يُلامون عليه، وبخاصّةٍ بعد العام 2019 حينما كان رؤساء الحكومة السابقون يرشّحون واحداً بعد آخر رئيس الجمهورية، ثمّ يقوم حامي الدستور بافتراسهم، وما فكّر أحدٌ منهم بالتوقّف عن الترشّح والترشيح حتى يرث المولى الأرضَ ومَنْ عليها.

بيد أنّ لوم رؤساء الحكومة لا يُعفي المجتمع الوطني السنّيّ من المسؤولية. فليست هناك “حيويّات” ورأي عامّ سنّيّ عنده شروطه ولديه ثوابته. ما عاد للدستور أحد، ولا لعلاقات لبنان العربية والدولية أحد. فكيف يتصوّر السُنّة أنفسهم أهل اللحمة الوطنية، والعيش المشترك، ثمّ يتركون مرشد الحزب المسلّح وصهر الجنرال الرئيس يتحكّمان بمصائر البلاد والعباد وسط هذا الانهيار الشامل؟!

وكلّ هذا كوم، والبيئات المسيحية على مشارف نهاية عهد عون كومٌ آخر. كلّ السياسيين المسيحيين، وبخاصّةٍ المستقلّون والتغييريون، ينهمكون ليس في التفكير بمن يرشّحون لرئاسة الجمهورية وقد سئموا عوناً وباسيله، بل يتابعون ويعلّقون على خلاف ميقاتي وعون والحقّ العونيّ في ذلك! المهمّ بالنسبة لهم “الشراكة الكاملة” لعون في تشكيل الحكومة، وهذا مع أنّه لم تبقَ حكومة ولا حاكم ولا رئاسة ولا بلاد. يقول أحد المعلّقين على ماذا يريد الحزب المسلّح وأنّه يفضّل استعادة حكومة تصريف الأعمال، وبخاصّةٍ أنّ رئيس الجمهورية كان راضياً عنها، فتقاطعه المتحدّثة في الـ MTV: لكنّ ميقاتي هو الذي يعرقل تشكيل الحكومة الجديدة لأنّه يريد تغيير وزيرين، فلا ينجح المعلِّق في إقناعها بأنّ المراد إرضاء الرئيس إذ لو كان المراد إرضاء الرئيس لما خالف ميقاتي وعرقل. فيضطرّ المعلّق إلى القول: لكنّ ميقاتي بحسب الدستور هو الذي يشكّل الحكومة، فتجيب المتحدّثة: لكنّ الرئيس شريك كامل فلا تصحّ مخالفته من جانب ميقاتي.

لا همَّ لسياسيّي المسيحيّين هذه الأيام إذن إلّا حقوق عون وتمرّد ميقاتي على ذلك، وينسى الجميع مصائب العهد وصهره وينهمكون في هذا النقاش البيزنطي.

إقرأ أيضاً: لقب “مفتي الجمهوريّة” عصيّ على فهم الإيرانيّين

لا حيويّة ملحوظة لدى سياسيّي السُنّة، وإلّا لماذا لا يجتمعون بدار الفتوى ويجدّدون خطابهم في الثوابت من جهة، وفي المواصفات من جهةٍ أُخرى؟

أمّا السياسيون المسيحيّون الذين يعتبرون أنفسهم سياديّين والذين شعروا بالقهر من عون وصهره وإن بعد فوات الأوان، فالعجيب أنّه تهمّهم “الحقوق العونية” أكثر ممّا يهمّهم مصير الجمهورية!

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…