غيرُ خافٍ أنّ مشروع “السّنّية السياسيّة”، الاقتصادي-السياسي-الاجتماعي، حمل التباساً طائفياً لطالما ساكَن القوى السياسية اللبنانية على اختلاف مصادرها النظريّة. لكنّ هذا الالتباس لا يحطّ من قدر المشروع وحامليه وروافعه التاريخية.
واقع الأمر أنّ القوى السياسية جميعها، في البلد، تعاني من هذا الالتباس. وبعضها طائفي المبنى والمعنى من دون التباس أصلاً. والحال أنّه لم يعُد ثمّة مكان في البلد يولد فيه التيار العابر للطوائف والمذاهب. فمنذ انتهاء الحرب الأهليّة وانتقالنا إلى ما يشبه “السلم المسلّح” في أواخر ثمانينيّات القرن الماضي، كان واضحاً للعيان أنّ الرحم التي كانت تحضن جنين التيارات السياسية العابرة للطوائف والمناطق أُصيبت بأضرارٍ كبيرة، ذلك أنّ هذا التيار ينمو في المدن المتنوّعة المشارب والمذاهب والطوائف والاتّجاهات.
محاكاة أدوار المدينة هو فعليّاً سؤال في “السنّيّة السياسية”، لأنّ أهل المدن اللبنانية سُنّةً. وهو أيضاً سؤال في اقتصاد البلد
و”السُنّيّة السياسية” بمعناها الضيّق تتّصل اتّصالاً وثيقاً ببيروت المدينة، أهلاً واجتماعاً واقتصاداً. الطائفة السُنّيّة لم تُنشىء “ميليشياها الفعليّة”. ما نشأ على ضفاف “اليسار اللبناني” و”المقاومة الفلسطينية” كان ادّعاءً سقط في أوّل امتحان. وهو فعليّاً “سقوط” أراده مقرّرو هذه الطائفة وممسكو أعنّتها على امتداد مُدنهم ومعهم بعضٌ من ريفهم. والقابضون على هذه الأعنّة كانوا بالتعريف أهل بيروت ونُخبها وعائلاتها.
محاكاة أدوار المدينة هو فعليّاً سؤال في “السنّيّة السياسية”، لأنّ أهل المدن اللبنانية سُنّةً. وهو أيضاً سؤال في اقتصاد البلد. السُنّة كانوا من بُناتِه. القادمون من خارج المدن دمّروه. بعضهم فعل ذلك كراهيةً. آخرون ارتكبوا ما ارتكبوا كيداً، لكن من دون الحلول محلّ أحد. كانوا حَمَلة مشاريع عسكرية ترى في السياسة، لكنّها حاسرة النظر في الاقتصاد والاجتماع. والسُنّة بوصفهم “أهل دولة”، لم يتعارض مشروعهم مرّةً مع الدولة الجامعة. ميليشيات الطوائف الأخرى كانت مشاريعها على الضدّ من الأبنية الدستورية والحقوقية. في التاريخ الحديث يمكن الركون إلى تجربة ميشال عون العسكري في اليرزة وصولاً إلى “حزب الله” اليوم، مروراً برئيسَيْ “حركة أمل” و”الحزب التقدّمي الاشتراكي”. مجدّداً هم أهل عسكر وشيء من السياسة. السياسة، وهدفها الدولة على معناها العريض، تشتغل على المدن وازدهارها. هذا لم يحصل مع المدن اللبنانية كحاملة للاقتصاد. مُرعب أن تصبح طرابلس مثلاً عبئاً على الاقتصاد الوطني.
بيروت، راهناً، يشغلها الآتون إليها من قاع المجتمع وليس من نُخبه. أو قل إنّ هذه النُخب صارت حلقاتها ضيّقةً جدّاً. لو كان شاغلوها الأكثر انتشاراً هم من نُخب ماليّة وفكرية وسياسية، كان حتماً الوضع مختلفاً تماماً. صارت بيروت سيّئةً جدّاً. طرابلس أسوأ. الاقتصاد القائم الآن هو من طبيعة أهليّة. نوع من اقتصادات هامشيّة كان ممكناً غضّ الطرف عنها لو أنّها تبني دولةً مفتوحةً على المعاصرة والحداثة. لكنّ جلّ ما تفعله أنّها تزيد الأمور تردّياً ورثاثة.
رَسا حال بيروت على أنّها مُشغّلة للهجرة السُفليّة. والأرجح أنّها ستبقى على هذا الحال ما دام البلد يفتقر إلى المشروع السياسي الذي تمثّله “السُنّيّة السياسية”
ولئن حافظت بيروت على حيّز ضيّق للتعبير والحياة، فإنّ ذلك لا ينفي واقع أنّها نفسها خرجت من الحرب مدينتين. المُقلق أنّ فيها اليوم من يريد لها أن تعاني من انقسامٍ أهليّ، وأن يشطرها شطرين مختلفين. والحقّ أنّ مداواة هذا الشرخ أو الجرح لا تتحقّق بالادّعاء بأنّنا لسنا طائفيين أو أنّنا نحمل مشروعاً علمانيّاً. بل مثل هذا الجرح يحتاج إلى زمن وعيش مشترك ليتسنّى للّبنانيين نسيان آلامه. وهذا ما حرصت بيروت طوال زمن “السلم المسلّح” على تثبيته والمحافظة عليه. بيروت هذه ما زالت حتى اليوم متنوّعة المشارب والمذاهب وأنماط الحياة. لكنّ الطاغي والحاكم شيءٌ مختلف. وبعض الأصوات شيءٌ آخر.
رَسا حال بيروت على أنّها مُشغّلة للهجرة السُفليّة. والأرجح أنّها ستبقى على هذا الحال ما دام البلد يفتقر إلى المشروع السياسي الذي تمثّله “السُنّيّة السياسية”. السؤال الملحاح حاليّاً: ما أهميّة بيروت اليوم بالنسبة إلى الدولة؟ جواب الطوائف الأخرى أنّها نقطة إنطلاق ومُكتسب تحصيل الحاصل. هذا لم يحصل بسبب الآخرين حصراً. هي مُشكلة “السُنّيّة السياسية” مُجدّداً غير القادرة على أن تكون أساسيّةً في البلد. عطبها انتماؤها الأبديّ إلى “الحريريّة السياسية”. لا يرمي ذلك إلى النسيان أو الانقلاب، بقدر ما هو سؤال: إلى متى الإقامة هناك؟ الغضب المنبعث من هنا وهناك لا يبني مشروعاً. وإذا فعل فإنّه على شاكلة ما يقدّمه المهاجرون إلى المدن، وبيروت على وجه التحديد. بهذا المعنى تُغفل “السُنّيّة السياسية” أنّ الغضب الموزّع جزراً لا يُفضي إلى مكان.
الحديث عن “اقتصاد” في لبنان في غياب أدوار المدن أقرب إلى الهذر منه إلى الجدّيّة. مدن لبنان كلّها حالكة. الأشدّ قتامةً وسواداً هي بيروت. الناجي الوحيد حتى اللحظة هو الساحل المُمتدّ من الدورة وصولاً إلى البترون، وهو اقتصاد أهليّ ومحليّ ومسيحيّ بالتعريف، أشبه بـ”مول” (مجمع تجاري). جُلّ ما يجيده هذا الاقتصاد صياغة معادلة الاستضافة بقدر ما يحوز الضيف من أموال. هو اقتصاد لا يُنتج ولا يُشغّل إلا مُلّاكه.
إقرأ أيضاً: المقعد السنّي “شاغر” على طاولة الحوار..
كان صحيحاً أن ترفض “السُنيّة السياسية” الاشتباك. وليس مُجدياً التذكير بمحطّات معيّنة. لقد كانت نتائج الرفض هذا ربحاً صافياً للبلد وأهله. لكنّ الآخر طالب باستئثار وتَمَلُّك. وجيّد جدّاً ما فعلته في طلب التسوية في بلد على مثال لبنان الكثير التنوّع والامتدادات الخارجيّة حدّ الإفراط بالوطنيّة السياسية. أكثر من ذلك، فتاريخ هذه “السنّيّة” حافل بطلب التسويات حفظاً للمدن، وتالياً الدولة. العودة إلى العائلات البيروتية من آل الصلح وسلام والحريري وغيرهم من الطارئين ومقدمي طلب الإنتساب إلى العائلات تفيد كثيراً في هذا الصدد. لكنّ كلّ ذلك يعيد طرح سؤال عليها عن “المشروع السياسي”؟.
في الجزء الثاني: مشروع “السُنّيّة السياسيّة” يُساجل نُخبها أوّلاً.