عند الأزمات المفصلية يصبح أيّ حراك لـ “حزب الله” يبعث على القلق منه وممّا قد يؤتيه من خارج الدولة. يزداد القلق ارتفاعاً متى تشابك الاحتدام الداخلي والتزامه الصمت، قبل أن يعود ويندفع في حقول السياسة اللبنانية مقرّراً هذا الأمر ومانعاً غيره، حيناً بفائض قوّته، وأحياناً بأدواره الـ “ما فوق لبنانية” التي تمتدّ من غزّة إلى اليمن مروراً بالعراق وسوريا. آخِرة هذه الاندفاعات كانت في سيل تصريحات مسؤوليه من على المنابر الحسينية عن ضرورة تشكيل حكومة، كما شدّد قبل يومين رئيس “كتلة الوفاء” النيابية محمد رعد.
إنّ التشديد على وجوب تشكيل حكومة وإن جاء في متن التجاذب السياسي الحادّ وحرب البيانات بين الرئيس المُكلّف نجيب ميقاتي وبين رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، إلا أنّه غير مقطوع الصلة عمّا يجري في عموم المنطقة. ففي الاستدلال المعاكس للوقائع السياسية، أي من الخارج إلى الداخل، هناك إيران وملفّها النووي، والانقسام الأهليّ بين الإطارين الشيعيّين الأقويَيْن في العراق، ناهيك عن الضربات التي تستهدف سوريا ومخازن الحرس الثوري الإيراني، وصولاً إلى تسريب الحزب نفسه عن رفع مستويات الاستنفارين الأمنيّ والعسكري على وقع المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل حول الترسيم البحري.
عند الأزمات المفصلية يصبح أيّ حراك للحزب يبعث على القلق منه وممّا قد يؤتيه من خارج الدولة. يزداد القلق ارتفاعاً متى تشابك الاحتدام الداخلي والتزامه الصمت، قبل أن يعود ويندفع في حقول السياسة اللبنانية
على المستوى المحلّي، كان لافتاً رفع الحزب لدعواته إلى العجلة في إقرار تشكيل حكومة، وذلك مع دخوله على خطّ المساعي بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلّف نجيب ميقاتي. وهذا الدخول وهذه الدعوات كشف عنها الحزب بعد فترة من النأي عن السجال القائم في هذا السياق والمتعلّق باحتمال انتهاء الولاية الرئاسية الراهنة وانتقال الصلاحيّات إلى حكومة تصريف الأعمال، وهي على صفتها هذه منذ انتهاء الانتخابات النيابية في أيار الماضي.
الحزب يتحسّب من الفراغ الرئاسيّ والتفسيرات الدستوريّة المتعارضة
تحسم اندفاعة “حزب الله” في هذا الاتجاه مبدئيّاً أنّ خشيته تتركّز في عدم حصول الانتخابات الرئاسية في موعدها، وأن يؤدّي ذلك إلى دخول البلد في سجال حول التفسيرات الدستورية المتعارضة، فتزداد الأمور تأزّماً في لحظة اقتصادية واجتماعية بالغة السوء جرّاء الانهيار الحاصل على كل المستويات. بهذا المعنى، يُراد من دخوله على الخطّ الحكومي الوصول إلى صيغة توافقية بين المكوّنات لتشكيل حكومة تكون غطاء شرعياً ودستورياً يمكن الاستمرار في ظلّه إذا ما دخل لبنان فراغاً رئاسياً، وفي ذلك إرادة لتجنّب حصول انقسام أهليّ كبير في الشارع قابل لأن يتحوّل في أيّ لحظة إلى فوضى سياسية واجتماعية، واستدراكاً أيضاً لِما قد يلجأ إليه بعض المقرّبين من عون من مثل اقتراح الانتحار بالبقاء في قصر بعبدا.
الانكفاء عن تبنّي مرشّح رئاسي والقلق من “17 تشرين” جديدة
في مقابل الحماسة التي يبديها الحزب في الموضوع الحكومي، يكتُم أيّ موقف يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي. وما خلا الاجتماع الأوّل الأخير الذي ضمّ أمينه العامّ السيّد حسن نصر الله مع النائبين سليمان فرنجية وجبران باسيل وأوحى من خلاله باهتمامٍ عالٍ بما يتعلّق بالرئاسة الأولى، فإنّ شيئاً جدّياً لم يحصل في هذا السياق. فهو حتى الساعة، يتجنّب تبنّي ترشيح أيّ شخصية مع علمه وقناعته بأنّ سيناريو العام 2016 لن يكون قابلاً لأن يتكرّر في ظلّ المعطيات المحلّية والإقليمية والدولية الراهنة. أمّا ما دون ذلك فهو يفضّل التهدئة وترك الكرة في ملعب المسيحيين يتكفلّون بالاشتباك، على أن يكون عنصراً مقرّراً، أو يفضّل البحث عن صيغة توافقية أو صيغة تسوية. وهذه ليست وقفاً على الوقائع المحلّية.
على الدوام كان حزب الله يتحرّك في السياسة على أساس الأمن. وهذا لقي ترجمته في ما سرّبه الحزب عن رفع درجات استنفار محازبيه إلى مستويات غير مسبوقة، ومنعهم من السفر حتى لزيارة العتبات المقدّسة
هذه الحماسة سبقتها اندفاعة باتجاه الداخل اللبناني بعناوين كانت صعبة المنال على غالبيّة اللبنانيين. وقد تظهّرت بلقاء مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط شكّل “بداية حوار”، ثمّ بالإطلالة المتلفزة الأخيرة للسيد نصر الله التي أعلن من خلالها عن جهوزيّة للبحث في الاستراتيجية الدفاعية، ثمّ تلاها السعي إلى ترتيب علاقاته مع غالبيّة القوى والمكوّنات على الساحة اللبنانية باستثناء “حزب القوات اللبنانية”، على أن يُترجم ذلك في الملفّات الحكومية، وذلك تحسّباً من لحظة مشابهة لحقبة 17 تشرين عام 2019، خصوصاً أنّ الفقر طال الجميع، وانهيار القدرة الشرائية وارتفاع سعر الدولار تنسحب مفاعيلهما على الجميع بلا إستثناء.
الحزب وتشابك الداخل بالإقليميّ والدوليّ
على الدوام كان حزب الله يتحرّك في السياسة على أساس الأمن. وهذا لقي ترجمته في ما سرّبه الحزب عن رفع درجات استنفار محازبيه إلى مستويات غير مسبوقة، ومنعهم من السفر حتى لزيارة العتبات المقدّسة. وذلك حصل لسببين: الأوّل هو التوتّر القائم مع إسرائيل بسبب الترسيم البحري. أمّا الثاني فيجد تفسيره في أنّ الحزب كان يستبق احتمالات ما سيحصل في العراق تحسّباً لتداعياته، وهو ما انعكس أيضاً في القرارات الإيرانية بُعيد حصول التطوّرات، إذ لجأت إيران إلى إغلاق الحدود ووقف الرحلات الجويّة.
إقرأ أيضاً: العراق ومصير لبنان… وتحذير صائب سلام
يحصل هذا فيما التطوّرات العراقية اندلعت على وقع المفاوضات النووية في فيينا التي تتحرّك صعوداً وهبوطاً بين ساعة وأخرى. ولهذا يحرص على إبقاء التهدئة في الداخل تحسُّباً لحصول تطوّرات سلبية مع الخارج، وتحديداً مع العدوّ الإسرائيلي. ولذلك قال نصر الله في أحد مواقفه إنّه يفضّل الذهاب إلى حرب مع إسرائيل كي لا يغرق لبنان في حرب أهليّة أو كي لا يتمّ إذلال اللبنانيين على أبواب الأفران وفي ظلّ الأزمات الاجتماعية والمعيشية.