قلق الإدارة الفرنسية على لبنان يصاحبه انزعاج شديد من ارتباك لبناني عامّ في تدبير الأولويّات لإعادة بناء ما سقط من الدولة، مع انهماك في الاستحقاق الرئاسي الذي تعتبر أنّ “الوقائع ستؤجّله ولو لمدّة قصيرة أو متوسّطة”. الإيجابية الوحيدة التي ترى هذه الإدارة أنّها حاضرة على الشاشة الدولية هي “الترسيم البحري” مع إسرائيل “الذي بات قيد التحقّق”. وفيما هي تنهمك في تفعيل برنامج مساعداتها الإنسانية بالشراكة مع المملكة العربية السعودية، فإنّها تستغرب التأخّر الحاصل في إقرار الإصلاحات مقابل بثّ أجواء إيجابية لا أساس لها.
الترجمة السياسية اللبنانية لهذا كانت في ما نُقل عن رئيس مجلس النواب نبيه برّي لجهة اشتراطه إقرار الإصلاحات قبل الدعوة إلى انتخاب رئيس للجمهورية مع حلول بداية المهلة الدستورية في 31 آب، علماً أنّه أعلن في السابق أنّه سيدعو فور بدء سريان المهلة إلى جلسةٍ لانتخاب الرئيس. ويسع برّي أن يوجّه الدعوة من دون أن يلتزم بموعد محدّد. وهذا حصل سابقاً قبيل انتخاب الرئيس ميشال سليمان. وحصل لاحقاً عام 2014، إذ راحت تتكرّر الدعوات من دون اكتمال النصاب وصولاً إلى عام 2016 حين انتُخب ميشال عون رئيساً.
مصدر دبلوماسي فرنسي لـ “أساس”: شركة توتال وفرنسا لا يوليان حاليّاً أهميّة للتنقيب بالمياه اللبنانية” في ظلّ المفاوضات الجارية
الأولويّة الإسرائيليّة “للترسيم البحريّ” مع لبنان
عمليّاً، لا يشكّل لبنان أولويّة دوليّة راهناً، إلا من مدخل “الترسيم البحري” مع إسرائيل، لأنّه يحقّق استقراراً لمصادر الطاقة الاستراتيجية وممرّاتها في حوض المتوسط وأوروبا. وما يزيد من هذه الأهميّة الحرب الروسية على أوكرانيا، على ما يقول دبلوماسي فرنسي رفيع لـ “أساس”، مُشدّداً على أنّ “الترسيم واقع لا محالة” في ظلّ ما يسمّيه هو “إيجابيّة إسرائيليّة”، يؤكّدها بحسب صحيفة “معاريف” ضابط الاحتياط القائد السابق لأسطول السفن الصاروخية شاؤول حوريف الذي رأى أنّ “أيّ تنازل تقدّمه إسرائيل في ما يتعلّق بالغاز في المنطقة المختلَف عليها يُعتبر جيّداً لأمنها ويحسِّن من وضعها”.
في إسرائيل انتقل ملفّ الخلاف مع لبنان حول الحدود البحرية إلى القضاء الإسرائيلي بعدما قدّم ما يسمّى “منتدى كهيليت” التماساً إلى المحكمة الإسرائيلية العليا يطالب فيه بتحويل القرار إلى الجمهور لحسمه باستفتاء شعبي. وبحسب الالتماس يطالب المنتدى بـ”إقرار نتائج المفاوضات بين إسرائيل ولبنان على خطّ التنقيب البحري في البحر المتوسط في استفتاء شعبي”.
من جهته، اعتبر مسؤول إسرائيلي مطّلع على سير المفاوضات بين لبنان وإسرائيل أنّ نجاح الالتماس “انتصار هائل للبنان”، بحسب صحيفة “معاريف”، وقال إنّ “تحويل الملفّ إلى المحكمة العليا هو خطوة أولى في طريق انتصار اللبنانيين، وفي حال نجح الملتمسون وقرّرت المحكمة تحويل القرار إلى استفتاء شعبي فسيكون ذلك عرقلة تمنع اللبنانيين من إنهاء المفاوضات منذ الآن”.
لا حرب بين لبنان وإسرائيل
يؤكّد المصدر الدبلوماسي الفرنسي لـ “أساس” أنّ “شركة توتال وفرنسا لا يوليان حاليّاً أهميّة للتنقيب بالمياه اللبنانية” في ظلّ المفاوضات الجارية. لا ينبثق التقدير الفرنسي من “خشية الحرب”، ذلك أنّ الطرفين لا يريدان حتّى التوتّر، ولكلّ منهما أسبابه الداخلية ذات الصلة بمتعلّقات إقليمية ودولية.
إسرائيل لا تريد الحرب على حدودها الشمالية لعدم ضمان نتائجها وتداعياتها، هذا من جهة. أمّا من الجهة الثانية، فقد نقلت “معاريف” أيضاً عمّا سمّته “مصدر سياسي” على صلة بالمفاوضات حول الحدود البحرية قوله: “حتى لو اضطررنا إلى التخلّي عن 4 في المئة من حقل (قانا) كهذا في نهاية المداولات، فإنّ أهميّة وجود حقل لبناني وطوّافة تنقيب لبنانية في هذه المنطقة هائلة. معنى الأمر هو هدوء تامّ وبوليصة تأمين ضد الإرهاب ومحاولات شنّ العمليات. ففي اللحظة التي تكون فيها للطرفين مصلحة اقتصادية واضحة ودراماتيكية جدّاً في منطقة واحدة فإنّ كليهما يحيدان”. وفي الأثناء، تضرب تل أبيب ما تعتبره “أخطاراً قد تستهدفها” بحرّيّة كاملة في سوريا وإيران، ناهيك عمّا وجّهته من رسائل عسكرية وأمنيّة في حربها الأخيرة على غزّة ضدّ “حركة الجهاد الإسلامي” بما هي أحد الأذرع الإيرانية. وقد تلقّى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله هذه الرسائل، مكتفياً بالردّ على الشقّ الأمني منها في خطابه الأخير، محذّراً من “اغتيال أيّ إنسان في لبنان”.
في ظلّ الوقائع الاقتصادية وأصلها السياسي، فإنّ الإدارة الفرنسية ترى أنّ “النهوض الاقتصادي يستلزم سنوات” إذا ما بقيت الأمور على حالها لجهة التلكّؤ في إقرار الشروط الدولية لمساعدة لبنان
إنّ اقتصار ردّ نصر الله على الاغتيالات وعودته إلى ما أعلنه سابقاً عن وقوفه وراء الدولة اللبنانية في مفاوضاتها عبر الوسيط الأميركي آموس هوكستين يُنحّي عمليّاً التوجّه إلى الحرب. فالظروف الراهنة بالنسبة إلى الحزب هي غيرها في العام 2006. آنذاك لم يكن قد أحكم سيطرته على لبنان، لا بل على العكس فقد كانت الغلبة للفريق السياسي المناوىء له ولعلاقته مع إيران.
الآن الحزب هو المسؤول الفعليّ عن البلد، مع اتّهامات عريضة له بالمسؤوليّة عن الأيلولة الكارثيّة التي صار إليها لبنان. وقبل هذا وبعده، فإنّ الأوضاع المعيشية القاهرة والضاغطة على كلّ اللبنانيّين هي سبب إضافي عنده لـ “تنحية” قرار الحرب مقابل تقديم خيار تفاوض لبنان بوساطة أميركية. وإلى ذلك، أظهرت نتائج الانتخابات النيابية انقلاب بيئات صديقة عليه. وهذا ظهر حتى في الجنوب، إذ خسر مقاعد مسيحية ودرزية مقابل إحكام القبضة على التمثيل الشيعي.
النهوض يستلزم سنوات.. واليسار الفرنسيّ في بيروت
في ظلّ الوقائع الاقتصادية وأصلها السياسي، فإنّ الإدارة الفرنسية ترى أنّ “النهوض الاقتصادي يستلزم سنوات” إذا ما بقيت الأمور على حالها لجهة التلكّؤ في إقرار الشروط الدولية لمساعدة لبنان. وهي لذلك، بحسب المصدر الفرنسي الرفيع، كثّفت برنامج المساعدات الإنسانية مع المملكة العربية السعودية. وإذا كانت نسبة مساهمة الرياض حتى الساعة هي أقلّ من نسبة مساهمة باريس، فإنّ الأخيرة تراهن على “اندفاعة سعودية”. وإلى حينه، تبقى خطّة البرنامج المشترك قائمة على المساعدات الإغاثية مع أخرى طبّيّة ستُخصّص للمستشفيات الحكومية في الشوف وطرابلس وعكّار، بالإضافة إلى “مساعدة خاصّة” للصليب الأحمر اللبناني.
إلى تراكم الانزعاجات من الأوضاع اللبنانية، فإنّ الإدارة الفرنسية، بحسب المصدر الدبلوماسي، كشفت عن امتعاضها من زيارة قام بها وفد من الأحزاب اليسارية الفرنسية برئاسة اليساري المتشدّد جان لوك ميلينشون منافس الرئيس إيمانويل ماكرون، ولقائه أحزاباً وحركات يسارية في لبنان بهدف “تدعيمها” و”توحيد” تحرّكها السياسي “وبقصد التشويش على الأداء الرسمي لفرنسا في لبنان”. ويرتفع مستوى الانزعاج من مضمون اللقاءات التي حصلت، وأبرزها كان مع الحزب الشيوعي اللبناني ورئيس حركة “مواطنون ومواطنات” شربل نحاس، وجرى فيها مقاربة مفادها أنّ “وجود اليسار في السلطة أفضل من وجود نبيه برّي”.
إقرأ أيضاً: فرنسا للبنان: سياسة اردوغان سترتد عليكم
والأكثر استفزازاً للإدارة الفرنسية كان انخراط الوفد اليساري الفرنسي مع نظرائه اللبنانيين في “كيفيّة التصدّي لمبادرة ماكرون نحو لبنان، فضلاً عن اقتناعه (الوفد) بأنّ سلاح حزب الله لا يمثّل مشكلة، وإنّما يُستخدم للتغطية على ما حصل من انهيار اقتصادي”.