على خلفيّة الوقائع الاقتصادية والاجتماعية، رفع كثيرون من السياسيّين اللبنانيّين يتقدّمهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عقائرهم بالنداء تلو النداء عن أنّ لبنان ما عاد قادراً على تحمّل اللاجئين السوريّين، على اعتبار أنّه بلد هشّ على كلّ المستويات. سيل التصريحات من هذا القبيل كانت له أصداء خارجية، وتحديداً أوروبيّة، لاقته بتنبيه لبنان الرسمي إلى عدم “نسخ” أسلوب الرئيس التركي رجب طيّب إردوغان في هذه القضيّة.
التنبيه الأوروبي للبنان تولّته فرنسا موجّهةً رسائل واضحة بأنّ الاستغلال السياسيّ لقضيّة اللاجئين سيرتدّ سلباً لأنّه سيزيد من تعقيدات المشاكل التي تفيض عن لبنان، وأنّ الأولويّة راهناً هي للإصلاحات الاقتصادية التي ينتظرها المجتمع الدولي والهيئات المانحة. هذا ويوفّر وجود اللاجئين للاقتصاد سيولة بالعملة الصعبة عبر مدخلين: الأوّل ما تقاضته وتتقاضاه الحكومات المتعاقبة عن بدل التعليم والاستشفاء والمساهمة في البنى التحتية. أمّا الثاني فهو عبر اللاجئين أنفسهم وما يتقاضونه عبر برامج الأمم المتحدة.
على خلفيّة الوقائع الاقتصادية والاجتماعية، رفع كثيرون من السياسيّين اللبنانيّين يتقدّمهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عقائرهم بالنداء تلو النداء عن أنّ لبنان ما عاد قادراً على تحمّل اللاجئين السوريّين
جاءت المسارعة الفرنسية إلى تحذير لبنان من مغبّة “الاستثمار السياسي” في هذا الملفّ على خلفيّة تغاضي السلطات اللبنانية عن التزاماتها بضبط الحدود البحرية وغضّ النظر عن قوارب المهاجرين إلى أوروبا، وهو منطق لجأ إليه الزعيم الليبي مرّةً مهدّداً بتحويل أوروبا إلى قارّةٍ سوداء في إعلان واضح منه عن عزمه على فتح شطآن ليبيا أمام الهجرة الإفريقيّة، على ما قال مصدر فرنسيّ رفيع لـ “أساس”.
لم يكن الحذر الأوروبي، والفرنسي على وجه أدقّ، مقطوع الصلة عن غضّ الأجهزة العسكرية والأمنيّة النظر عن قوارب الهجرة من الشمال تحديداً، وخصوصاً بعد الحادثة الشهيرة على شاطىء طرابلس، التي قيل إنّها “أُغرقت ولم تغرق بسبب فائض حمولتها”. وقد تناهى إلى الفرنسيين أنّ ضابطاً عسكرياً رفيعاً أجرى في لقائه مع أهالي ضحايا الحادثة نوعاً من مقايضة قوامها “تجنّب محاسبة الضبّاط المسؤولين مقابل غضّ الطرف مستقبلاً عن الهجرة غير الشرعية”.
القلق الأوروبيّ من شواطىء لبنان
ارتفع القلق الأوروبي العامّ من موضوع الهجرة غير الشرعية إلى مستويات حسّاسة جدّاً في الأيام الأخيرة من شهر حزيران الماضي بعدما نجح نحو 160 لبنانياً وفلسطينياً وسورياً، بعضهم صدرت في حقّه مذكّرات قضائية، في الدخول إلى اليونان وكانوا يسكنون في مخيّمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة والبدّاوي. والمفارقة أنّ بعض هؤلاء صعدوا إلى الباخرة وهم مسلّحون، ولم يكن غرضهم القيام بأعمال إرهابية، إنّما كانوا يعتزمون “مقاومة” أيّة دوريّة بحريّة للجيش اللبناني قد تحاول إيقافهم أو إغراق سفينتهم كما حصل في شمال لبنان.
ارتفع القلق الأوروبي العامّ من موضوع الهجرة غير الشرعية إلى مستويات حسّاسة جدّاً في الأيام الأخيرة من شهر حزيران الماضي بعدما نجح نحو 160 لبنانياً وفلسطينياً وسورياً، في الدخول إلى اليونان
هؤلاء إذ نجحوا في الدخول إلى اليونان، إلا أنّ غيرهم قبلهم قد استطاع ذلك. فقد كثرت، بحسب “خفر السواحل اليوناني”، عمليات إبحار القوارب المحمّلة بالمهاجرين من السواحل اللبنانية باتّجاه الدول الأوروبية، خاصة بعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية غير المسبوقة التي يواجهها لبنان، وتحديداً بين شهر نيسان والأوّل من حزيران. ولئن لم يُوفّق خفر السواحل اليوناني بتوقيف هؤلاء فقد سجّل عمليّة إنقاذ في أواخر شهر أيّار، حيث أعلن “إنقاذ 172 مهاجراً، كانوا على متن قارب صيد يواجه صعوبات ملاحيّة قبالة جزيرة كارباثوس جنوب شرق بحر إيجه”. وقالت آنذاك متحدّثة باسم الجهاز لوكالة الأنباء الفرنسية إنّ “جميع المهاجرين بخير وبصحّة جيّدة، وتمّ نقلهم إلى جزيرة كوس”. وأوضحت المتحدّثة أنّ القارب انطلق من السواحل اللبنانية باتّجاه إيطاليا.
دفعت هذه الحادثة معطوفةً على العديد من غيرها إلى الاعتقاد بأنّ هناك توجّهاً رسميّاً لـ”تهديد القارّة الأوروبية” بالهجرة غير الشرعية، وابتزازها ماليّاً. ما عزّز هذا الاعتقاد عند الإدارة الفرنسية هو ملخّص اجتماع لوزير خارجيّتها جان إيف لودريان مع رئيس الجمهورية ميشال عون في شهر أيار من العام الماضي، وفيه “رسالة تهديديّة بأنّ على أوروبا أن تستقبل اللاجئين الفلسطينيين والسوريين، واللبنانيين أيضاً، إن لم يُصَر إلى تقديم مساعدات ماليّة عاجلة للبنان”. كان عون يريد من ذلك “ابتزاز” الاتحاد الأوروبي لتقديم أموال “قد تكبح جموح الاقتصاد اللبناني” نحو السقوط الحرّ.
إقرأ أيضاً: تقارب الأسد وأردوغان: ماذا عن المعارضة السورية؟
آنذاك نصح لودريان الرئيس عون بـ “تجنّب سياسة الابتزاز لأنّ الاتّحاد الأوروبي لن يستجيب للأمر”. لكنّ تصريح ميقاتي قبل فترة عن الأمر الذي تطرّق إليه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، ومن قبلهما وبعدهما رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل وآخرون ممّن يمثّلون حساسيّة “لبنانية” من تغيير ديمغرافي قد يحصل، خصوصاً في ظلّ سياسة إدارة الظهر التي تعتمدها سوريا مع مواطنيها في لبنان، دفع إلى مبادرة الإدارة الفرنسية إلى تكليف دبلوماسي رفيع بنقل رسالة واضحة إلى المسؤولين اللبنانيين بـ”عدم اعتماد سياسة إردوغان الابتزازية لأنّها لا تُجدي، ووجوب تقيُّد لبنان بالتزاماته ومسؤوليّاته الدولية”.