أثبتت مجدّداً الحشود الضخمة، التي نظّمها “حزب الله” في العاشر من محرّم، أنّ الحزب بات الطرف الداخلي الوحيد القادر على التعبئة. والمرّة الوحيدة التي وجد فيها الحزب منافساً له على هذا الصعيد، كانت في 14 آذار عام 2005، والتي صنعها استشهاد الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، لكنّها لم تتكرّر منذ 17 عاماً.
لم يعد اليوم في حساب الأمين العام للحزب حسن نصرالله خصم داخليّ كي يستعرض عضلاته في وجهه، كما فعل في 8 آذار عام 2005، إنّما بات في حسابه كيف يُظهر قوّته أمام إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، كما فعل الشهر الماضي، عندما وجّه 4 مسيّرات نحو حقل كاريش النفطي والغازي في إسرائيل، فأحدث بلبلة عند الإسرائيليين والأميركيين على السواء. لكنّ الأسابيع التي تلت حدث المسيّرات حفلت بتطوّرات آخرها حرب غزّة التي غيّرت المعادلات التي كانت تعتمد عليها إيران من خلال “حزب الله” في لبنان، وحركة الجهاد الإسلامي في غزّة، وكلاهما الذراع المباشر لطهران في المواجهة مع إسرائيل.
على الرغم من المحاولات لإعادة ترتيب الصفوف في محور حلفاء إيران، إلا أنّ النظام السوري ما زال حتى الآن لا يتجاوب مع وساطة “حزب الله” كي تعود حركة حماس إلى العمل المباشر في مناطق النظام
كان الاهتمام، الذي سبق خطاب عاشوراء، مركّزاًعلى ما سيقوله السيّد في حرب غزّة التي كانت وضعت أوزارها للتوّ، خصوصاً أن خطابه خلال المواجهة كان سقفه عالياً،عندما قال في السادس من آب الجاري إنّ الساعات القليلة الآتية ستثبت أنّ العدوّ الصهيوني أخطأ بالتقدير، وإنّ ما حصل يثبت الردع الفلسطيني أمام الإسرائيلي.
ثلاثة أيّام بين السادس من آب والتاسع منه، عندما أطلّ نصرالله في خطاب عاشوراء. في هذا الخطاب، حدث تغيير، أورده السيّد على النحو الآتي:”أبدأ الكلمة بالتعبير عن المظلومين في نيجيريا، عادة نبدأ من فلسطين،لكن اسمحوا لي أن أبدأ من نيجيريا.هناك أتباع لأهل البيت عليهم السلام ما زالوا حتى الآن في كلّ سنة يمشون ويخرجون في مواكبهم السلميّة الحسينيّة رجالاً ونساء يطلق عليهم النار ويسقط منهم الشهداء من الرجال والنساء والصغار … في بداية كلمتنا نعبّر عن مواساتنا للقائد الكبير في نيجيريا المظلوم المجاهد الصابر والد الشهداء الشيخ الزكزكي…”.
هل يستحقّ فعلاً الكلام على ما يحصل مع شيعة نيجيريا الأولويّة على التطرّق إلى ما حصل في غزّة،ولاسيّما ما تكبّدته “حركة الجهاد الإسلامي” من خسائر في الأرواح،ومن بينهم قائدان كبيران هما تيسير الجعبري وخالد منصور؟
في أيّ حال، رسم نصرالله حدود التضامن مع غزّة عموماً، وحركة الجهاد خصوصاً، وهي التي تماثل “حزب الله” على المستوى الفلسطيني، قائلاً:”سمعنا أنّ الإسرائيليين يخطّطون لاغتيال قادة فلسطينيين. وإذا حصل هذا الأمر في لبنان، فإنّ أيّ اعتداء على أيّ إنسان في لبنان لن يبقى من دون عقاب ولن يبقى من دون ردّ”.
تعامل نصرالله هذا مع حدث كبير في المنطقة، وفي ساحة ذات صلة مباشرة بإيران، لا بدّ أن يجد تفسيراً ولو جاء من الجهة الإسرائيلية في الوقت الراهن. فقد أوردت صحيفة “نيويورك تايمز” غداة التوصّل إلى وقف النار في حرب غزّة أنّه “قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار، صوّر المحلّلون الإسرائيليون إلى حدّ كبير الحادثة (حرب غزّة) على أنّها انتصار، وحتى تحذير لأعداء إسرائيل الآخرين في المنطقة، وبخاصة حزب الله، الميليشيا الإسلامية في لبنان، من المصير الذي ينتظرهم إذا دخلوا أيضاً في قتال واسع النطاق مع إسرائيل في المستقبل القريب”.
لم يعد اليوم في حساب الأمين العام للحزب حسن نصرالله خصم داخليّ كي يستعرض عضلاته في وجهه، كما فعل في 8 آذار عام 2005، إنّما بات في حسابه كيف يُظهر قوّته أمام إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية
وفي 8 آب الجاري، كتب باتريك كينغسلي في “نيويورك تايمز”أنّه خلال حرب غزّة “بقيت حماس، حكومة الأمر الواقع المدنيّة في غزّة… على الهامش…وعلى الرغم من أنّ قرار حماس لم يسبق له مثيل، إلّا أنّه أكّد الدور المعقّد والمتغيّر الذي اضطلعت به الحركة منذ سيطرتها على قطاع غزة في عام 2007، وعرضت هذه الحرب الاحتكاكات بين المتشدّدين الإسلاميين الفلسطينيين حول أفضل السبل لمحاربة إسرائيل، وسلّطت الضوء على كلّ من نفوذ إيران، التي تدعم كلّاً من “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، وحدود هذا الدعم”.
ما يعزّز فرضيّة أنّ حرب غزّة الأخيرة كانت ذات بعد إيراني، أنّ مسؤولاً في حركة الجهاد في غزّة يُدعى داوود شهاب، وخلال اتصال هاتفي مع قناة “المنار” التي كانت تستضيف في السادس من الجاري ممثّل حركة “حماس” في لبنان أسامة حمدان، كشف أنّ حركة الجهاد تخوض المواجهة مع إسرائيل منفردة.
إلى ذلك ردّ مسؤول في صحيفة “الأهرام” المصرية على سؤال لقناة “بي بي سي” العربية بعد التوصّل إلى هدنة أنهت حرب غزّة بوساطة مصرية، فقال إنّ القاهرة لا تتعامل مع حركة الجهاد وإنّما مع حركة حماس فيما يتّصل بالمرحلة المقبلة.
تعيد “نيويورك تايمز”إلى الأذهان أنّه “خلال الحرب الأهليّة السورية، لم ينفصل “الجهاد الإسلامي” أبداً عن حليفة إيران الوثيقة سوريا، على الرغم من حرب الحكومة السورية ضدّ المتمرّدين الذين كانوا، مثل “الجهاد الإسلامي” و”حماس”، إسلاميّين سُنّة. ومع ذلك، قطعت “حماس” علاقاتها مع دمشق قبل عقد من الزمان، تضامناً مع جماعة الإخوان المسلمين السورية، ولم تستعيدها إلا أخيراً”.
إقرأ أيضاً: لا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها يا سيّد!
لكن على الرغم من المحاولات لإعادة ترتيب الصفوف في محور حلفاء إيران، إلا أنّ النظام السوري ما زال حتى الآن لا يتجاوب مع وساطة “حزب الله” كي تعود حركة حماس إلى العمل المباشر في مناطق النظام. وهذا ما ألمح إليه نصرالله في الحوار المطوّل الذي أجراه معه غسّان بن جدّو في قناة “الميادين” التلفزيونية، عندما قال:”في السنوات السابقة لا “حماس” كانت جاهزة، والظرف لم يكن يساعد، ولا أيضاً القيادة السورية كانت جاهزة لخيار من هذا النوع، كان واضحاً أنّ الأمور تحتاج إلى وقت”.
في الخلاصة، لا يبدو تفصيلاً صغيراً أن يعطي نصرالله بالأمس الأولويّة في كلامه للحديث عن نيجيريا وليس لفلسطين،إذ قد يكون هناك معطيات يحوزها وجعلته يستشعر خطراً ما دفعه إلى إعادة ترتيب الأولويّات في مرحلة بالغة التعقيد في لبنان والمنطقة.