كيف انقلبت بريطانيا على ذاتها؟

مدة القراءة 5 د

هل تتبوّأ موقع منصب رئيس الحكومة في بريطانيا شخصيّة من أصول آسيوية؟ إذا حدث ذلك فإنّه سيشكّل سابقة تاريخية، وانقلاباً على الشخصية البريطانية التي توالت على منصب الرئاسة (10 دونغ ستريت) منذ أن كانت الدولة.

ينحصر التنافس الآن بين وزيرة الخارجية ليزا تراس،وهي من أصول إنكليزية، ووزير المالريشي سوناك، وهو من أصول آسيوية (هنديّة).

كانت معركة الرئاسة التي أطلقتها استقالة بوريس جونسون قد بدأت بخمسة مرشّحين آخرين، جميعهم من أصول غير بريطانية، منهم: العراقي الأصل نديم الزهاوي الذي هاجر إلى لندن مع عائلته وهو في سنّ الحادية عشرة فقط. وزيرة العدل سويلا برافرمان من أبٍ كيني إفريقي وجاءت مع والدتها من جزر موريشوس،. وكذلك ساجد جافين وزير الصحّة السابق الذي هاجر برفقة والده الباكستاني ولم يكن في جيب والده سوى جنيه إسترليني واحد.

كان ترشّح هذه الشخصيّات للرئاسة البريطانية حدثاً في حدّ ذاته،خاصّة أنّهم جميعاً يترشّحون باسم “حزب المحافظين” المعروف بأنّه أشدّ انغلاقاً على الذات البريطانية عنصريّاً وسياسيّاً.

المرشّحون جميعاً ليسوا فقط من أصول أجنبية كما تدلّ على ذلك بشرتهم. لأن الإستثناء على ذلك هي وزيرة الخارجية البريطانية الأصل

يشكّل ترشّح هذه الشخصيّات لرئاسة الحكومة البريطانية نصف انقلاب. يكتمل الانقلاب إذا فاز ريشي سوناك على منافسته وزيرة الخارجية، وهو أمر يبدو صعباً جدّاً. يروي سوناك قصّة وصول والدته إلى لندن، فيقول إنّ “امرأة شابّة كانت تطمح إلى حياة أفضل وتحبّ عائلتها هاجرت إلى لندن. ومع الوقت أصبح ابنها وزيراً للمال، وهو يطمح الآن إلى أن يصبح رئيساً للحكومة”.

المرشّحون جميعاً ليسوا فقط من أصول أجنبية كما تدلّ على ذلك بشرتهم. لأن الإستثناء على ذلك هي وزيرة الخارجية البريطانية الأصل. في عام 2019 أُجري استفتاء في بريطانيا حول مبدأ أن يكون رئيس الحكومة مُتناسلاً من إثنية من الأقليّات. آنذاك، صوّت 88 في المئة من البريطانيين لصالح التمسك بالأصول البريطانية. وكانت هذه النسبة هي الأعلى من بين كلّ الدول الأوروبية الأخرى.

تبلغ نسبة الأعضاء في حزب المحافظين الذين يتحدّرون من أصول غير بريطانية نحو 20 في المئة، فيما ترتفع لدى حزب العمال (المعارض) لتصل الى لتبلغ الضعف، أي نحو 40 في المئة. ولكن حتى عام 2001 لم يكن هناك عضو واحد في حزب المحافظين يتحدّر من أصول غير بريطانية.

في الانتخابات العامّة التي جرت في عام 2005 لم ينجح على لائحة حزب المحافظين سوى اثنين فقط ممن يتحدّرون من أصول آسيوية أو إفريقية. أما  في عام 2019 ارتفع العدد إلى 22 عضواً، أي ما نسبته 6 في المئة من الكتلة البرلمانية للحزب، وقد لعب رئيس الحكومة حينه ديفيد كاميرون دوراً مهمّاً في إحداث هذا التغيير. ومع ذلك كانت النسبة أعلى لدى حزب العمّال.

من يسترجع صورة بريطانيا في عهد رئيس الحكومة بنجامين دزرائيليأو رئيس حكومة ونستون تشرتشل، أو في عهد رئيسة الحكومة مارغريت تاتشر يدرك عمق وحجم التغيير. فالأخيرة كانت ضدّ المبادرات الودّيّة – الإنسانية التي قامت بها الملكة إليزابيت الثانية تجاه زعيم جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا، حتى قبل أن يصبح رئيساً للدولة. وكان الرئيس الأميركي الأسبق أوباما لدى دخوله البيت الأبيض بعد جورج بوش الابن قد طلب إزالة تمثال رأسيّ صغير لونستون تشرشل من المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، لأنّه تشرشل مارس أبشع أنواع التنكيل بالقبائل الكينيّة التي كانت تقاوم الاحتلال البريطاني من أجل الاستقلال. وكان من جملة المقاومين جدّ أوباما الذي اعتُقل وعُذّب بأمر من تشرشل.

وقد أدّى تدخّل أوباما إلى صدور قرار من الحكومة البريطانية بالتعويض على ذوي الضحايا الكينيّين الذين سقطوا ضحايا “عنصريّة تشرشل”.

لم تعد بريطانيا دولة دزرائيلي أو تشرشل أو تاتشر. لقد أكّدت على هويّتها الملكة إليزابيت التي تعاطفت مع حركات تحرير الأفارقة، وخاصة جنوب إفريقيا، وحركات تحرير شعوب الهنود الحمر، وخاصة في كندا. ولقد قام البابا فرنسيس أخيراً بمبادرة إنسانية راقية للاعتذار إليهم عن الجرائم التي ارتكبتها الكنيسة بحقّ أسلافهم.

وبينما تشهد بريطانيا الشائع عنها أنّها من طبيعة محافظة مجتمعاً ودولة هذه المتغيّرات الجذرية في أوساط النخبة الحاكمة، تزداد فرنسا انغلاقاً على ذاتها. فخلال الحملة الانتخابية الأخيرة (انتخاب الرئيس ومجلسَيْ النوّاب والشيوخ) ارتفعت شعارات من أحزاب يمينية متشدّدة تندّد وتحذّر ممّا تسمّيه “الاحتلال من الداخل”. وهو الشعار الذي كان قد رُفع أثناء الحرب العالمية الثانية ضدّ اليهود الفرنسيين، ويُرفع اليوم ضدّ المسلمين الفرنسيّين بتهمة أنّهم يعملون على احتلال فرنسا “من الداخل”.

إقرأ أيضاً: العقوبات الاقتصادية: سلاح فاشل سياسياً.. ويدمّر فقط

يتولّى منصب وزير الداخلية في الحكومة البريطانية الحاليّة بريتني باتل، وهو أوغنديّ الأب، هنديّ الأمّ. وعندما أصدر قرارات تسهيل إجراءات الهجرة أمام أصحاب الاختصاصات وتدفّق المئات منهم نحو بريطانيا، لم يتّهمه أحد بأنّه يعمل على “الاحتلال من الداخل”.

لقد تغيّرت بريطانيا، وسبقت كلّ الدول الأوروبية الأخرى في حركة التغيير.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…